القضية الفلسطينية والبناء المعرفي المستدام
- أهل فلسطين كما هم ضحية سلب أرضهم وتدنيس مقدساتهم والكذب على تاريخهم والطعن في عقيدتهم وثوابتهم فإنهم أيضًا ضحية الأفكار والأكاذيب التي سوقها المحتل - نحن في أشد الحاجة لمؤسسات معرفية متخصصة جادة في بحثها ونتاجها العلمي والحضاري الذي يكون مرجعًا وسندًا لشباب الأمة وحماية لأجيالنا من بحر الشبهات والافتراءات
قوة المعرفة لأي قضية نعيش أحداثها تشكل مقدار الوعي المعرفي لدى الشعوب بتلك القضية، واستمرار ذلك الوعي غير المرتبط بحدث معين، ثم ينتهي أو يضعف ببعد أحداثه عن ناظرينا، هو تحد كبير بحاجة إلى جهود جبارة من أهل الاختصاص، وقضية فلسطين ومقدساتها تبدأ من نقطة المعرفة؛ فالبناء المعرفي أساسي لفهم ما يجري في فلسطين.
من أجل الهدم المعرفي في الأمة
التاريخ -مع الأسف- يكتبه القوي المنتصر!، وأما الضعيف المغلوب على أمره، فلا يكتفي بأن يعيش بهزيمته وآلامه، بل عليه أن يرضى ويصدق بهذا التاريخ، ويقبل بسرد الوقائع التي وقعت أمام عينه بصور مغايرة للحقائق، انطلاقا من المقولة: «التاريخ صنع المنتصرين». فقد استطاع المحتل أن يرسخ مفاهيم يصعب اقتلاعها لدى الكثير من الناس، فأصبحت (أكاذيب متجددة)، و(غائبة حاضرة)، منذ وعد بلفور وما تلاه من احتلال أرض فلسطين في 1948م إلى يومنا هذا، وما قاله (بني موريس) (باحث وصحفي يهودي) في تعليقه على ما أشاعه اليهود من أكاذيب، يلخص لنا تلك المسيرة: «نشرنا الكثير من الأكاذيب وأنصاف الحقائق، التي أقنعنا أنفسنا وأقنعنا العالم بها، لقد حان وقت معرفة الحقيقة، كل الحقيقة، والتاريخ هو الحكم في النهاية».تنبُه المراقبين الدوليين
وقد تنبه المراقبون الدوليون لعملية تشويه الحقائق؛ فقال (كال فون هورن) في كتاب العنصرية اليهودية: (3/586): «لقد أدهشتنا براعة الكذب التي زيفت الصورة الصحيحة منذ اجتمعت وسائل إعلام المحتل الماهرة، ولم يسبق لي في حياتي أن اعتقدت بأن في الوسع تحريف الحقيقة بمثل هذه السخرية والبراعة».أهل فلسطين ضحية الأكاذيب
ولا شك أن أهل فلسطين كما هم ضحية سلب أرضهم وتدنيس مقدساتهم وكذب على تاريخهم وطعن بعقيدتهم وثوابتهم، فإنهم -فضلاً عن ذلك كله- ضحية الأفكار والأكاذيب التي سوقها المحتل.لا فصل بين التاريخ والحاضر والمستقبل
إن التفاعل مع القضية الفلسطينية وفق عاطفة موسمية مؤقتة لا تتطور إلى فعل متواصل مؤثر، فالانفصال عن التاريخ، وعدم إدراك خلفيات الأحداث وغياب القدرة على تحويل الأفكار والعواطف إلى برامج عملية مستمرة وخلاقة، مبدؤها ألا يمكن الفصل بين التاريخ والحاضر والمستقبل، ولا يمكن التعامل مع أحد في هذه الأزمنة دون الآخر، ولا سيما في حالة الصراع في فلسطين المحتلة، كل ما يجري راهنًا في فلسطين المحتلة هو استدعاء لتاريخ زوره الاحتلال، وأراد فرضه على الفلسطينيين، وسعى إلى إقناع العالم كله بزيفه، فمن يملك الرواية يملك الأرض.الحاجة لمؤسسات معرفية متخصصة
فنحن في أشد الحاجة لمؤسسات معرفية متخصصة جادة في بحثها ونتاجها العلمي والحضاري الذي يكون مرجعًا وسندًا لشباب الأمة، وحماية لأجيالنا من بحر الشبهات التي تتلاطم أمواجه لتقذف بهذا الزبد إلى شواطئنا. والرد عليها لا يكفي فيه الحب في النفوس للمسجد الأقصى المبارك، إن لم يقترن مع العلم بمكانة المسجد الأقصى وفضائله الثابتة في الكتاب والسنة، ووقائع التاريخ وأحداث السير والمسائل الفقهية المتعلقة بالمسجد الأقصى وتاريخه، والبحث والتمحيص المبني على منظومة معرفية متكاملة.البناء المعرفي الشبابي
ولا شك أنَّ البناء التوعوي بالقضية الفلسطينية يتطلب -لنجاحه- عملا مؤسسيا شبابيا؛ حيث إن المعرفة المنتشرة عن بيت المقدس أضحت معرفةً مشوهةً، لا تنتمي إلى ثقافتنا العربية والإسلامية الأصيلة، ولا تساعد في فهم أكثر وعيًا وعمقًا لحالة القدس الفريدة تحت الاحتلال، ما يؤصل لحالة فقدان البوصلة؛ فالوعي هو خط الدفاع الأول عن القدس والمسجد الأقصى وقضية فلسطين. ومما يجب فعله في تلك الأيام هو إثراء الخزان المعرفي لدى الشباب، وتعزيز المناعة الثقافية لديهم، ليكونوا أكثر استعدادًا للدفاع عن القضية وتقديمها للجماهير العالمية في اللحظة التي تكون تلك الجماهير مستعدة فيها للسماع وتلقي المعلومات من مصادر أصحاب القضية.البناء المعرفي المنهجي التراكمي
والبناء المنهجي المتراكم حول القدس المحتلة والمسجد الأقصى، هو التعبير عن الوعي بحقيقة القدس المحتلة والمسجد الأقصى ومركزيتها في الحضارة الإسلامية، وقدر التحديات التي يجب مواجهتها في سبيل تحريرها، فأولى مهمات المؤسسات الشبابية العاملة من أجل نشر الوعي بقضية فلسطين هي إنتاج معارف مقدسية عميقة الدلالة بسيطة الشكل ونشرها وتطويرها وعصرنتها، ويرتكز في ذلك على أسس واستراتيجيات واضحة، ووضع برنامج تدريبي في علوم بيت المقدس، يتضمن عددًا من المستويات المعرفية، تتدرج من المستوى التأسيسي العام إلى الأكاديمي المتخصص.المعرفة ركيزة المواجهة
إن الإعداد الشخصي والبناء النفسيّ بالمعرفة والثقافة والتعمق في شؤون قضايا فلسطين والقدس وشجونها، هو الانطلاق الصحيح للعمل المؤسسي والنخبوي والمجتمعي الجماهيري؛ فتأسيس المعرفة هي القاعدة الصلبة التي تستطيع حمل قضية فلسطين وتؤسس للمراحل اللاحقة، من تحويل القصد إلى فعلٍ، لأن البناء المعرفي ثاني ركائز السالك بعد تمكين الدافع الشخصي، فمن خلال المعرفة والثقافة نعبّد طريق العمل للقدس والأقصى وفلسطين وفق منهجية علمية فكرية تطبيقية، نلخص مراحلها على النحو الآتي: أولاً: مكانة القدس في العقيدة يبدأ الدارس في التعرف على مكانة المدينة في العقيدة، فينهل من فضائلها ومكانتها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ويرفع من سوية تعلقه القلبي، وتشوقه الروحي؛ فالقدس والأقصى جزءٌ من عقيدة كل مسلمٍ، والتشوق لها جزءٌ من تدينه. ثانيًا: الاطلاع على تاريخ المدينة المقدسة أما ثاني محطات التزود الفكري والمعرفي، على الدارس أن يطلع على تاريخ المدينة في حقبه المتلاحقة، من أقدم عصورها الضاربة في القدم، إلى محطاته اللاحقة، وأجد أن التركيز على تجارب الفتح العمري والتحرير الصلاحيّ لها أثرٌ إيجابيّ في تفقه الدارس، وتعرفه على سننٍ تاريخيّة وحضاريّة جمة، يستنبط منها سياقات دالة على موقع الأمة في التدافع الحضاري، وقدرتها على القيام من جديد من رحم المعاناة والضنك والمأساة، وعلى تطويع العسر وتحويله إلى يسر، وغير ذلك من دروسٍ فكرية وحضارية وإنسانية. ثالثاً: دراسة تاريخ القدس وفلسطين الحديث دراسة تاريخ القدس وفلسطين الحديث، وكيف مهد الاحتلال البريطاني للمغتصبين الهجرة إلى فلسطين؟ وكيف استطاعوا الاستيطان وبناء كيان دولتهم؟ وما جرى لاحقًا من هزائم نكراء، ونكسات ونكبات حلت بالشعب الفلسطيني المكلوم، وآثار ذلك على الواقع، وانعكاساته على الصعد السياسية وغيرها. رابعاً: معرفة أحداث القضية ومستجداتها وبعد عنصر التاريخ وما يتصل به من مكانة وموقع وغيرها، لا يمكن للسائر على طريق التحرير ألا يكون ملتصقًا بهموم المدينة وما يجري فيها من أحداث ومستجدات؛ فمعرفة القدس عن قُرب لا ينفك عن العمل لها؛ إذ تسهم هذه المعرفة في تصويب بوصلة العمل، وترتيب الأولويات بطريقة أكبر وأنجع؛ إذ تواجه القدس اعتداءاتٍ ومخططات تهويديّة خطيرة؛ ما يدفعنا إلى المزيد من البحث والمتابعة، ورصد الدراسات والتقارير التي تتحدث عن واقع القدس وفلسطين، وعن استراتيجيات الاحتلال في تهويد المدينة، وعما يتعرض له المسجد الأقصى المبارك من اعتداءات واقتحامات وتدخلات في الإدارة والمكان، وما يجري أسفله من حفريات وأنفاق، وبناء كنس ومراكز تهويديّة، وعن تشويه صورة المدينة العربية والإسلامية بالمشاريع الاستيطانية، وهدم منازل الفلسطينيين باستمرار، وعن مخاطر تزييف التعليم واستهداف الأطفال والنساءبكل ما لدى الاحتلال من وسائل وسلطات، وغير ذلك من تفاصيل. سادسًا: الاهتمام بتاريخنا وبتراثنا لابد من الاهتمام بتاريخنا وبتراثنا وتحقيق المخطوطات في فضائل بيت المقدس والمسجد الأقصى وفلسطين ونشرها، وهي المخطوطات التي عمل عليها محققون ودارسون يهود، ومستشرقون قريبون من وجهة نظر اليهود؛ للحفاظ على التراث العلمي المتعلق ببيت المقدس والمسجد الأقصى وفلسطين، وتنقية ما تم تحقيقه من قِبل كُتاب وباحثين وأكاديميين مستشرقين ويهود؛ فقد أضافوا إلى تلك التحقيقات الكثير من الأكاذيب والافتراءات.دور مؤسساتنا العلمية والأكاديمية
لذا كان لزامًا على مؤسساتنا العلمية والأكاديمية، العمل بكل جد على كتب التراث الإسلامي، وقطع الطريق أمام (جيش البروفسورات)، الذي يجمع ويسرق ويحقق وينشر تاريخنا وتراثنا، ونحن نقف مكتوفي الأيدي. ولا يتحقق ذلك إلا من الاطلاع العام عبر قراءة الكتب وأبرز الدراسات ذات الصلة، أو حضور الدورات النافعة المفيدة التي يقدمها متخصصون في هذه المجالات، ويجب على طالب المعرفة أن ينهل من هذه العناوين بقدر ما يستطيع وما يستلزمه عمله والدرب الذي سار فيه، ومن وجد في نفسه شغفًا نحو المزيد، وأراد المضي قدمًا في هذه المسارات المعرفية التخصصية، فعليه اختيار مسارٍ من هذه المسارات، ويفرغ فيه جهده، ليكون علمًا من أعلامه، ويسهم في مرحلة لاحقة بتطويره، وتقديم الجديد من الدراسات والأبحاث ذات الصلة، في سيرورة متواصلة من العمل والبذل، ونقل المعلومة للأجيال القادمة من السائرين على درب التحرير.
لاتوجد تعليقات