رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 15 أبريل، 2019 0 تعليق

القرآنُ وكشفُ خفايا النفوس وسيلةً لرد الباطل

لا يمكن إغفال حظ النفس في المعتقدات التي يعتقدها الإنسان؛ وذلك أن المقاصد والغايات تعدُّ المفسِّر الحقيقي لتصرفات المكلف ومعتقداته، والنفس البشرية نفس معقَّدة، يتجاذبها كثير من المغذِّيات الخفيَّة؛ فالإنسان بطبعه يسعى إلى ما يحقِّق رغباته، ويصل من خلاله إلى مراده، ومن هنا كان حديث المكاشفة مقصدًا قرآنيًّا، يراد من خلاله كشف التصور وحقيقته لدى الإنسان، ويبيِّن العوامل المؤثِّرة في تصوُّراته وأفكاره، وكثيرًا ما تكون هذه العوامل داخليَّة وخفيَّة، والخطاب والاستدلال مجرَّد تمويه ثقافيّ أو غطاء تسويغي، فإذا انكشَفت هذه العوامل وعُرِّيَتْ رأى الإنسان الأمور على حقيقتِها، وأمكنه التَّوازن في الحكم عليها والتّخلِّي عنها.

     وقد توسَّع القرآن في الحديث عن خفايا النُّفوس ومدى مضادَّتها للوحي، وكيف كانت عقبة حقيقية في رد الحق واتباع الباطل؛ فتجد القرآن يقابل بين الوحي والهوى، وبين الشريعة والهوى، ويقرِّر أنَّ اتِّباعها لا يمكن أن يجتمع مع الهوى، قال -سبحانه-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4). كما بين أن من أسباب عدم الاستجابة مع ظهور الحق وقوة دليله اتباع الهوى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} (القصص:50).

الهوى في مفهوم الشرع

     والهوى في مفهوم الشرع يشمل كثيرًا من الممارسات التي تصدُر عن الإنسان، منها: التعصُّب للآباء والأجداد، وتفضيل المألوف والمقبول عَقلا على الحقِّ الواضح؛ ولذلك حين يؤثر الرجل جماعته وحزبه أو يتكبَّر على قائل الحقِّ لأنه يراه دونه، فكل هذا يشمله مدلول الهوى؛ ولذلك لم يخرج قوم نوح عن معنى اتباع الهوى حين رأوا في أَتباع نوح قومًا بسطاء في التفكير لا يستحقون أن يسبقوهم إلى الحق، ولا أن يجتمعوا معهم عليه، فردّوا البينة بحجة واهية وهي وجود أناس بسطاء في وجهة نظرهم يتبنَّون الحق، وهنا كاشفهم نوح بالحقيقة، وبين أن هذا التعلُّق ليس مسلكًا سليمًا في مقابل البينة.

نوح وقومه

     قال -سبحانه وتعالى- حكاية عن نوح وقومه: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود: 27، 28)، (فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} والملأ هم الأشراف والرؤساء: {مَا نَرَاكَ} يا نوح {إِلَّا بَشَرًا} آدميًّا {مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} وسفلتنا، والرذل: الدون من كل شيء، والجمع: أرذل، ثم يجمع على أراذل، مثل كلب وأكلب وأكالب، وقال في سورة الشعراء عنهم: {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} (الشعراء: 111)، يعني: السفلة. وقال عكرمة: «الحاكة والأساكفة»، {بَادِيَ الرَّأْيِ} قرأ أبو عمرو: {بادِئ} بالهمز، أي: أول الرأي، يريدون أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير رويَّة وتفكّر، ولو تفكَّروا لم يتَّبعوك. وقرأ الآخرون بغير همز، أي: ظاهر الرأي من قولهم: بدا الشيء؛ إذا ظهر، معناه اتَّبعوك ظاهرًا من غير أن يتدبَّروا ويتفكَّروا باطنا. قال مجاهد: «رأي العين»، {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِين}. قال نوح: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} بيان {مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً} أي: هدى ومعرفة، {مِنْ عِنْدِهِ فَعَمِيَتْ عَلَيْكُمْ}، أي: خفيت والتبست عليكم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: {فَعُمِّيَتْ} بضمّ العين وتشديد الميم، أي: شُبِّهَت ولُبِّسَت عليكم، {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي: أنلزمكم البينة والرحمة {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} لا تريدونها؟!

تأثير الصحبة

     ومن خفايا النفوس التي تؤثر على الإنسان في اتِّباع الحق الصُّحبة؛ فلها تأثير في النفس عجيب، يجعل الإنسان يردُّ الحق حبًّا في أصدقائه وموافقة لهم؛ ولذا كشف القرآن هذه الخفية وبين مآلها، وذلك بالحديث عن مآلها حين تكون في مقابل الاتباع وتقدم عليه، وتجعل وسيلة خفية لرد الوحي: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلًا} (الفرقان: 28). يقول -تعالى- ذكره: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} نفسه المشرك بربِّه {عَلَى يَدَيْهِ} ندمًا وأسفًا على ما فرط في جنب الله، وأوبق نفسه بالكفر به في طاعة خليله الذي صدّه عن سبيل ربه، يقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} في الدنيا {مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} يعني طريقًا إلى النجاة من عذاب الله.

وقوله: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا}، اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: {الظَّالِمُ} وبقوله: {فُلانًا} فقال بعضهم: عني بالظالم: عقبة بن أبي معيط؛ لأنه ارتدّ بعد إسلامه، طلبًا منه لرضا أُبيّ بن خلف، وقالوا: فلان هو أُبي.

     وإذا تنقلت بين آي القرآن وسوره ستجد الحديث مبثوثًا عن القلوب، وعمَّا يعرض لها من أمراض، وعن مراعاة الدوافع في تشريع الأحكام، فمثلا أمر النساء بعدم الخضوع في القول خشية أن يغذِّي هذا التصرّف غرائز وكوامن في نفوس الآخرين، قد تجرّ إلى أمور لا تُحمد عقباها، قال -سبحانه-: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} (الأحزاب: 32).

الإيمان المزعوم

     وفي الكلام عن الإيمان المزعوم والادعاء الكاذب لا يغفل القرآن حظ النفس الذي يعد سببا رئيسًا في الادعاء، فيقول -سبحانه-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون} (البقرة: 10).

مرض الشّكِّ والشبهات

     وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} المراد بالمرض هنا: مرض الشّكِّ والشبهات والنفاق؛ لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع كلها من مرض الشبهات، والزنا ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها من مرض الشهوات، كما قال -تعالى-: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين، فحصل له اليقين والإيمان، والصبر عن كل معصية، فرفل في أثواب العافية.

زيف الادعاء ودوافعه

     فاكتفى القرآن بتبيين زيف الادعاء ودوافعه وجعله وسيلة لرده، وهذه خصيصة في القرآن إبان تنزّله، وكانت محطَّ نظر كلّ مَن له شبهة أو باطل يسعى إليه؛ فإنَّ أكثر ما يُقلقه هو حديث المكاشفة الذي يقوم به القرآن أثناء عرض الشبهة والرد عليها؛ حتى صار هذا الأمر هاجسًا نفسيًّا يراود المنافقين ويقلقهم أثناء محاولة تشكيل معتقد فاسد، وقد تحدَّث القرآن عن هذا الهاجس أيضا وكشفه وبيّنه في قوله -تعالى-: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون} (التوبة: 64). قَالَ السُّدِّيُّ: «قال بعض المنافقين: والله، وددت لو أني قدمت فجلدت مئة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت الآية»، وهذه الآية هي جزء من سورة التوبة التي سمِّيت الفاضحة؛ وذلك لكشفها لحقيقة المنافقين، قال الحسن: «كان المسلمون يسمُّون هذه السورة الحفَّارة؛ لأنها حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته».

مكاشفة النفس

     والغرض من هذا أن مكاشفة النفس والحديث عن الدوافع ليس دخولا في النيات، بل أحيانا يكون جزءًا من تبيين الحقّ وتعرية الباطل، وذلك بتبيين الدوافع الدنيئة التي تختبئ تحت الأهداف النبيلة والشعارات البراقة والقول الجميل، فلا بد أن يفصل الحق عن الطائفة والحزب وعن الهوى حتى يتبع من أجل أنه حقّ لا لمقصد آخر؛ ولذلك جعل العلماء الإخلاص هو التخلي عن حظ النفس من أجل مراعاة حق الرب ومقصد الشارع، وإلا كان الإنسان ممّن يعبد الله على حرف؛ إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصبته فتنة انقلب على وجهه.

نفوس المؤمنين

     ولا يخفى على القارئ أن كشف خفايا النفوس لم يختص بالمنافقين، بل شمل المؤمنين؛ حتى يترقوا في مدارج الإخلاص، وينتبهوا لخطر الحظوظ الآجلة، وهذا تجده في الحديث عن بدر، وكيف سعى المسلمون للعير، وقدر الله لهم أن يلقَوا الحرب، فإن القرآن لم يغفل أحوال النفوس عند الخروج لبدر إلى نهاية المعركة وحب النفل وغير ذلك، ويكفي في ذلك ما لخصه إبراهيم في دعوته لقومه، وبين لهم تأثير خفايا نفوسهم في اتباعهم للباطل وإشراكهم بالله -عز وجل-، فقال كما حكى الله عنه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذتُم مِّنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّنْ نَّاصِرِينَ} (العنكبوت: 25)، كأنه قال: تلك مَوَدةُ بينكم، أي: أُلفتكم واجتماعكم على الأصنام مَوَدةُ بينكم، والمعنى: إنما اتخذتم هذه الأوثان لتتوادُّوا بها في الحياة الدنيا.

     فحب المودة والركون للألفة هي من الأباطيل والخفايا التي تدفع الإنسان إلى التمسك بالباطل ورد الحق، ولا يمكن إغفال هذه المعاني في مناقشة أي فكرة، وهذا هو السّرُّ في تسمِيَة السَّلف لأهل البدع بأهل الأهواء، بدلَ أهل التأويل؛ لأن هذا الوصف عبَّر عن الخلفية الحقيقيّة وراء كثير من الأباطيل والملل والنحل.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك