رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: زين العابدين كامل 13 يونيو، 2021 0 تعليق

القدس إسلامية من البداية إلى النهاية


لا شك أن قضية القدس والأقصى قضية محورية وعقدية، وينبغي على المسلمين أن يدرسوا تاريخ مدينة القدس والمسجد الأقصى، وأن يُحيوا القضية ويدعموها بالوسائل المختلفة، ويُطلق على مدينة القدس: مدينة السلام، ومدينة البركة ومدينة الطهر، وبيت المقدس، ويطلق على المسجد الأقصى بيت المقدس أيضًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وصف المسجد الأقصى وصفه ببيت المقدس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك»، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس».

أول من نشأ في المدينة المقدسة

     وتشير المصادر التاريخية إلى أن أول من نشأ في المدينة المقدسة المطهرة، وعمّرها وأنشأها هم العرب اليبوسيون، والعرب اليبوسيون هم بطن من بطون العرب الكنعانيين، وقد هاجرت هذه القبائل الكنعانية قبل الميلاد بثلاثة آلاف عامٍ تقريباً من شبه الجزيرة العربية الى أرض فلسطين؛ حيث استوطنوا وأقاموا في بيت المقدس، وهم أول من دخل المدينة وأقامها وأنشأها وعمرها، لذا كان يطلق على أرض فلسطين في وقت من الأوقات (أرض كنعان) نسبة إلى العرب الكنعانيين، وكان يطلق على بيت المقدس في وقت من الأوقات مدينة (يبوس) نسبة الى اليبوسيين، وكان يطلق عليها أيضًا (سالم) نسبةً الى سالم أول حاكم حكم مدينة القدس المباركة، وقد استمر العرب اليبوسيون في مدينة القدس الى أن هاجر إليها أبو الأنبياء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وكان ذلك عام (1800) ق.م تقريبًا، أو في عصر الهكسوس، بحسب ما يُذكر في بعض المصادر التاريخية.

دخول إبراهيم -عليه السلام-  أرض الشام

     وقد أثبتت نصوص القرآن والسنة دخول إبراهيم -عليه السلام- أرض الشام، فلقد نشأ إبراهيم -عليه السلام- بأرض بابل بالعراق، ثم بعد مناظرته مع النُّمْرُودِ ونجاته من النار هاجر إلى بلاد الشام، كما قال -تعالى-:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} ( الأنبياء71)، ثم هاجر بعد ذلك إبراهيم ومعه زوجته سارة إلى مصر، وقد نجى الله -تعالى- سارة من الملك الظالم الذي كان إذا سمع عن امرأة جميلة أرادها لنفسه، وقد أهدى الملك لسارة هاجر، ثم هاجر إبراهيم -عليه السلام- من مصر إلى أرض فلسطين، وبصحبته سارة وهاجر، ثم عرضت سارة على إبراهيم -عليه السلام- أن يتسرى بهاجر؛ حيث إنها كانت تعلم رغبة إبراهيم -عليه السلام- في الولد، وقد رزق الله -تعالى- إبراهيم بإسماعيل -عليهما السلام-، وهنا دبت الغيرة في قلب السيدة سارة، فجاء الأمر من الله -تعالى- بأن يهاجر إبراهيم إلى مكة المكرمة كما هو معروف ومشهور.

من أول من قام ببناء المسجد الأقصى؟

     قال -تعالى- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} (1 الاإسراء)، أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام»، قال: قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قال: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة ثم أينما أدركت الصلاة بعد فصله، فإن الفضل فيه»، وليس هناك نص ثابت في أول من بنى المسجد الأقصى، ولكن لا خلاف أن بيت المقدس أقدم بقعة على الأرض عرفت عقيدة التوحيد بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة، وأن الفرق بين مدة وضعهما في الأرض أربعين سنة، يقول القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن): «واختلف في أول من أسس بيت المقدس، فروي أن أول من بنى البيت يعني البيت الحرام آدم -عليه السلام-، فيجوز أن يكون ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عامًا، ويجوز أن تكون الملائكة أيضًا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله، وكل محتمل والله أعلم»، وأورد ابن حجر في الفتح (كتاب أحاديث الأنبياء): «إن أول من أسس المسجد الأقصى آدم -عليه السلام-، وقيل الملائكة، وقيل سام بن نوح -عليه السلام-، وقيل يعقوب -عليه السلام».

     وذكر السيوطي في شرحه لسنن النسائي: «أن آدم نفسه هو الذي وضع المسجد الأقصى، وأن بناء إبراهيم وسليمان تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه»، ويقول ابن كثير في (البداية والنهاية): إنه في عهد يعقوب بن إسحاق -عليهما السلام- أعيد بناء المسجد الأقصى بعد أن هرم بناء إبراهيم -عليه السلام. وذكر شهاب الدين المقدسي في (مثير الغرام): «وكان هذا البناء تجديدًا»، والثابت بالأدلة الشرعية المعتمدة لدينا -نحن المسلمين- أن سليمان -عليه السلام- بنى المسجد الأقصى، وأن بناء سليمان -عليه السلام- بناء التجديد والتوسعة والإعداد للعبادة لا بناء التأسيس، روى النسائي وابن ماجة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما فرغ سليمان بن داوود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا: حكمًا يصادف حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: «أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة»، وقال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن): «إن الآية -أي قوله تعالى-: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} (البقرة:127)- والحديث الذي رواه النسائي لا يدلان على أن إبراهيم وسليمان -عليهما السلام- ابتدأا وضعهما بل كان تجديدًا لما أسس غيرهما».

     والغرض المقصود أن المسجد الأقصى مر بمرحلة تأسيس ثم تجديد، وقد ساهم الأنبياء -عليهم السلام- في بنائه وتجديده، وميراث إبراهيم والأنبياء هو ميراث دين وملة وعقيدة، ومن هنا نقول: إن القدس والمسجد الأقصى ميراث إسلامي، قال -تعالى- {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ( الأنبياء) (105)

القدس في زمن موسى ويوشع -عليهما السلام

     لما نجى الله -تبارك وتعالى- موسى -عليه السلام- ومن معه من بني إسرائيل من فرعون، أمر الله موسى -عليه السلام- ومن معه أن يدخلوا الأرض المقدسة، وقد كان العرب الكنعانيون يعبدون الأوثان من دون الله -عز وجل-، وكانوا يسكنون الأرض المقدسة، وهنا اعترض بنو إسرائيل، ورفضوا أن يدخلوا الأرض المقدسة مع موسى -عليه السلام-، قال الله -تبارك وتعالى- حاكيًا عن حال موسى مع قومه في سورة المائدة { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}.

المقصود بالجبارين

     والمقصود بالجبارين هنا الكنعانيين، وهم العرب الذين سكنوا الأرض المقدسة، وكانوا عمالقة أقوياء أشداء، لذلك اعتذر بنو إسرائيل، وقالوا لن ندخلها ما داموا فيها، فحكم الله عليهم بالتيه أربعين سنة وحرم عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة، ومن شدة تعلق موسى -عليه السلام- بالأرض المقدسة تمنى أن يموت بجوارها، فسأل موسى -عليه السلام- ربه تبارك و-تعالى- أن يقبض روحه بالقرب من الأرض المقدسة، وعن ابن عباس أن موسى وهارون عليهما السلام قد ماتا في فترة التيه، فمات هارون -عليه السلام- في فترة التيه، ثم مات موسى -عليه السلام- في فترة التيه أيضًا بالقرب من الأرض المقدسة بقدر رمية حجر، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:» فَسَأَلَ اللَّهَ أنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بحَجَرٍ، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: فلوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إلى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأحْمَرِ» (أي لو كنت هنالك لأريتكم قبره بجانب الطريق عند الكثيب الأحمر، أي عند كوم رمال أحمر)، ثم بعد ذلك يأتي زمن يوشع -عليه السلام-، وذلك بعد أن خرج جيل جديد، جيل إيماني يستحق أن يدخل الأرض المقدسة، بل يستحق أن يشرف بهذا الفتح، وأن يسعد في الدنيا والآخرة، ويوشع هو فتى موسى الذي سار نبيا بعد موسى -عليه السلام-، وبالفعل يتحرك يوشع -عليه السلام- ويدخل بالمؤمنين الموحدين من بني إسرائيل الأرض المقدسة، ويفعل ما أراده موسي -عليه السلام-، وينتصر بالفعل يوشع علي القوم الجبارين الكنعانين الذين يسكنون الأرض المقدسة.

     وقد وقعت حادثة آنذاك خلال فتح يوشع لمدينة القدس، فعندما أوشك يوشع أن ينتصر في معركته بعد عصر يوم الجمعة، نظر إلي الشمس وقد أوشكت علي الغروب، وكان في شريعتهم أنه لايجوز القتال في يوم السبت، فخاف يوشعُ -عليه السلام- أنْ يَعجِزوا؛ لأنَّه في شَريعتِهم لا يحِلُّ لهم القِتالُ في يوم السبتِ كم ذكرنا، فدعا اللهَ ألَّا تغرُبَ وقال «اللهم احبسها علينا» فأمْسكَها اللهُ حتى دخَل بيتَ المقدسِ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس»، وهكذا أيَّد الله رُسلَه ونَصَر أولياءَه بمُعجزاتٍ وخوارقَ، فلم تتأخَّر الشمس يومًا عن دَورانِها وحركتِها، إلَّا ليُوشعَ بن نونٍ.

القدس وبختنصر البابلي

     ثم تمر السنون والأزمنة، ويظهر الفساد في بني إسرائيل الذين دخلوا الأرض المقدسة، فكفروا بالله -عز وجل-، وكذبوا الرسل، وهنا أرسل الله -تعالى- عليهم عدوا من غيرهم، قاتلهم فأسر منهم خلقاً كثيراً، وقد قتل أشرافهم وعلماءهم، وهذا العدو هو(بُختنصر) وكان رجلاً كافراً، دخل بختنصر المدينة المقدسة المباركة واستولى عليها، وعاد بنو إسرائيل إلى العراق، وعاشوا في أرض بابل، وقد ذهب غير واحد من المفسرين أن هذا الفساد الذي وقع من بني إسرائيل، هو الفساد الأول المذكور في سورة الإسراء، قال -تعالى-{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} وقد ذكر بعض المؤرخين أن دخول بختنصر كان بعد زمن سليمان -عليه السلام-، الذي أرجحه أن دخول بختنصر كان بعد الفساد الأول في ذلك الزمان.

     ومن هنا يظهر أن مدينة القدس هي المؤشر الرئيس والمعيار الحقيقي لحال الأمم، لما عاد بنو إسرائيل إلى الله مع يوشع استردوا الأرض المقدسة وأخذوها من الكنعانيين العمالقة، ثم لما ظهر الفساد في بني إسرائيل، حُرموا الأرض المباركة، وانتقلوا إلى أرض بابل بالعراق، ومن هنا نقول: إن القدس لا تكون إلا للمؤمنين، سواء كانوا من بني إسرائيل أم من غيرهم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك