الفكر التربوي عند الشيخ: عبد العزيز بن أحمد الرشيد (1)
الدراسة تستهدف التعرف على الفكرِ التربوي عند الشيخ عبدالعزيز الرشيد (ت 1356هـ، 1938م)، وإسهاماتِه في الحركة الثقافية، سواءٌ على مستوى الكويت أم خارجها، وذلك بالنظر إلى المشاريع التي قادها في هذا الاتجاه. وخلصت الدراسةُ إلى أن الشيخ عبد العزيز الرشيد رائدٌ من روّادِ الإصلاح الكبار على مستوى الكويت والخليج العربي، في اتجاهات عدة، ولاسيما التعليمُ وما استحدثه من مناهجَ جديدةٍ اعتنى فيها بأركان العملية التعليمية (المتعلِّم، المعلِّم، المنهاج)، أدَّت إلى النهوض بالتعليم النظاميّ في الكويت. واتخذ الرشيد من إنشاء الصِّحافة وتأليفِ الكتب وإلقاء المحاضرات سبيلاً لإرساء النهضة الثقافية الكويتية مطلعَ القرن العشرين، وحاول جاهداً إبرازَ سماحة الدين الإسلامي في أحسن صورة، وأنه صالحٌ لكل زمان ومكان، وطبق ذلك عملياً في المشاريع التي تبنّاها، وأثبت أنه لا تعارض بين التطور الذي هو سِمةُ الحياة وبينَ الدين الإسلامي الحنيف.
دور القيادات الفكرية
- تقوم القياداتُ الفكرية بدور أساسيّ بارزٍ في توجيه الأمم، فهي قلبُها النابض؛ لذلك يُعدُّ الشيخُ عبدالعزيز الرشيد من أعمدة النهضة العلمية المعاصرة، بل يُعد رائداً من الرواد الأوائل في هذا الميدان، فشكَّل مع الشيخ يوسف بن عيسى القناعي جناحا الطائرِ لهذه النهضة العلمية. فالشيخُ الرشيد ليس مجرد مؤرِّخ يروي التاريخَ ويكتبُه؛ بل هو صانع من صناع نهضةِ الكويت وتاريخِها؛ فإن بحثت في الدعوة والعلم والتعليم والصحافةِ والسياحة والسياسة والاجتماع فلا يمكنك أن تتجاوزَ الشيخَ الرشيدَ إلا وتقف عنده وقوفاً طويلاً. وهذه الدراسةُ تتناول شخصيةٍ الرشيد، وتسلِّطُ الضوء على تراثه العلمي؛ بُغيةَ جعله منارةً للأجيال القادمة؛ لتسلكَ سبيله، وتجعلَه جسراً تعبر به إلى المستقبل. وإيماناً بأن التعرف إلى تاريخ الكويت يستلزمُ أن يُعنى بدراسة الشخصيات التي أسهمت فيه بفكرها وقلمها ونشاطها، وأثّرت وتأثّرت بمحيطها المحلي والإقليمي، ومن هذه الشخصيات: الشيخ الرشيد. فأصبحت دراسة حياة هذه الشخصية واستنتاج فكره التربوي أمرا مهما مُلِحّا؛ لأنه أحدُ أعمدةِ التعليمِ النظاميِّ في الكويت، وممن شَغل حياتَه بالدعوة والعلم والتعليم، والصّحافةِ. وحياة هذه الشخصيات الوطنية التي تتسم بالاعتدال في التفكير والوسطية المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف، يجب أن تُدرَس وتُحلَّل وتُبرَزَ للجيل الجديد؛ لتبقى آثارُهم في القلوب نابضةً، وأقوالُهم في النفوس خالدةً؛ فيكونوا بهذا قدوةً للأجيال على مر العصور.
منهجه تعزيز للوسطية
- والعالمُ الإسلامي المعاصرُ تبيّنَ له -بعدَ عناء شديد، وضياعٍ كبير في محاضن التربية الغربية- وجوبُ العنايةِ التامة والاعتمادِ المباشر على الأصول الإسلامية في بناء أنظمته التربوية؛ ولهذا فالمؤسسات التربوية تجد نفسها أمام ضرورةِ الاستفادة من آراء علماء المسلمين البارزين، الذين تمثَّلوا الدينَ الإسلامي، وطبَّقوه تربيةً عملية. (الرشودي: 2000). وقد أشارت دراسةٌ (ملك والكندري: 2003) إلى اتفاق علماء التربيةِ في أنّ التاريخ يمثِّل أصلاً مهما من أصول التربية، وأنّ استئناف مسيرة الأمة الحضارية باستلهام الرصيد التراثيِّ مسؤوليةٌ فكريةٌ جسيمة، وفضيلةٌ دينية عظيمة؛ من أجل دراسة تراث خير أمة أخرجت للناس، واستثماره في ظلِّ وجود تياراتٍ فكريةٍ تُمثل ذلك الردح من الزمن في الكويت؛ إذ كان منهم من أراد الجمودَ على القديم، ومنهم من أراد الانفلات والضياع في متاهات الدروب. وجاء منهج الرشيد تعزيزاً للوسطية التي دعا إليها الإسلامُ.
مدرك للصراع الفكري
- وكان الشيخُ عبدالعزيز الرشيد مدركاً للصراع الفكري وتحديات التبعية، وفقدان الذات، وما فرضته المناهج الغربية ولاسيما في ميدان التربية والتعليم؛ فهو يملك رصيداً ضخماً من الموروث الثقافي للأمتين العربية والإسلامية، غيرَ منغلقٍ عليه، وكان متطلعاً للمستقبل ومتشوِّفاً لركب الحضارة والتطور، وهذا موجود في تراث الرشيد بوصفه فكرا تربويا متميزا واضح الملامح والمعالم.
أهمية إسهاماته التربوية
- من المؤمَّل أن تسهم هذه الدراسة في التعرف على شخصية الشيخِ عبدِالعزيز الرشيدِ وإسهاماتها التربوية، وإثراءِ المكتبة التربوية الكويتية برافدٍ من الروافد المهمة في الفكر التربوي. والبحثِ في الحركة الثقافية المتنامية التي تشهدها الكويت لتدوين تاريخها على نحو منهجي موسوعي. والتعريفِ به بوصفه مؤرخ الكويت الأول، والرائدَ الأولَ للصحافةِ الخليجيةِ، وهو من رصد لنا الحركةَ الفكرية النشطة في الكويت والخليج العربي. الكتابةِ عن شخصيةِ الرشيد تعدُّ ترسيخاً لمفهوم الوسطية والتعايش السلمي؛ حيث إنه استقى منهجَه التربويَّ من معينِ الكتابِ والسُّنة وما كان عليه سلفُ الأمة. ولفتِ نظر الباحثين إلى طريقة الرشيد في التربية والتعليم التي سلكها وخالف فيها معاصريه، وتحمُّلِه الصعابَ في سبيل هذا التجديد الذي جنت ثماره الكويت بدخولها في النظام التعليمي الحديث، فكان لها السبق والريادة على أمثالها من الدول.
دراسات في فكر الرشيد
- فما الفكر التربوي عند الشيخ عبدالعزيز الرشيد؟ وما المدخَلاتُ الفكريةُ التي أثَّرت في تكوينه النفسي؟ وما المساهماتُ الثقافيةُ في مسيرته العلمية والمهنية؟ وما المنهجُ الفكريُّ التربويُّ الذى سعى عبدُالعزيزِ الرشيدُ إلى ترسيخِه؟ ولا يمكن تحقيق كل هذا إلا بالنظر في الدراسات السابقة حول فكر الرشيد؛ فقد أجرت الفارسُ (2017) دراسة عن جهودِه في التصدي للإلحاد والردِّ على شُبهات الملحدين، وموقفِه من قضايا التفرنج، والمدنية، والنظريات الحديثة، وجهوده في بيانِ أهمية التعليم وإنشاءِ المدارسِ. أجرى الهاجري (2014) دراسةً نقدية في منهجيةِ النص التاريخي ومضمونه لكتاب (تاريخ الكويت). وأجرى أنس الرشيد (2002) دراسةً عن دور الرشيدُ في إرساء قواعد حرية الكلمة بكتابة (تاريخ الكويت)، وما تلا ذلك من إصداره لأول مجلةٍ في الكويت والخليج العربي، والرِّحْلاتِ التي قام بها. وأجرت الخترش (1993) دراسة عن ظاهرة التنقل والاغتراب عنده، ودوافعه في طلبُ العلم، وأنه يحمل رسالةً كبرى، هي تطهير الدين مما علق به من خرافات أدت إلى تخلف المسلمين.
تكوينه الفكري الأول
- نتيجةً للقحط رحل والده أحمد الرشيد البداح من (الزُّلْفي) النجدية إلى الكويت؛ حيث استقرَّ فيها، وأنشأ أسرةً، وفي عام (1305هـ، 1887م) وُلد عبد العزيز، وفي السادسةَ دخل الكتاب لتعلم القرآن الكريم ومبادئ الكتابة والحساب، وأتمَّ حفظَ القرآن الكريم، وكان عبدَالعزيز يساعد والده في التجارة، وسافر معه، وحُبِّبَ إليه القراءةُ والاطلاع؛ فكان ذلك النواةَ الأولى في مسيرته العلمية. ولميله للعلم وافق والده على مواصلةَ الدراسة على شيخ الكويت وفقيهها عبدِالله الخلفِ الدحيان.
- انضم الرشيدُ إلى مدرسة الدحيانِ، وتعدُّ هذه المدرسةُ من أشهر المدارس آنذاك في الكويت، إن لم تكن أشهرَها؛ حيث كان رائدها الدحيان على جانب كبير من التقوى والعدل؛ فجعله ذلك أهلاً للثقة عند الكويتيين، وقد اتخذ من مسجده وديوانه مدرسةً يعلم فيها التلاميذَ صباحاً ومساءً العلومَ الشرعية، ولاسيما الفقهَ الحنبليَّ، والذي زاد من إعجابِ الرشيد بهذا المعلمِ أنه كان على تواصل مع العلماء في الخارج عن طريق المراسلة، ويبدو أن الاعجاب كان متبادلاً بين التلميذ وأستاذه؛ حيث لاحظ الأخير بوادرَ نبوغ التلميذ، وهذا أهَّله في عام أو عامين فقط للتفوّق والتحصيل المبْكرِ؛ فكان يسمعُ من أستاذه عن العلماء الذين يراسلهم في الخارج، فتاقت نفسه الطموحةُ إلى المزيد، لكنَّ ثمّةَ صعوباتٍ تقفُ دون هذا الطموح.
مواصلته في طلب العلم
- تغَلَّبَ الرشيدُ على تلك الصعوبات، وفعلاً رحل الشاب ذو الخمسةَ عشرَ عاماً إلى (الزبيرِ)، وهي بمثابة أكبر الجامعاتِ في وقتها وتلقبُ: (الشامَ الصغرى). ثم التحق بمدرسة الزهير عام (1902)، ومقرها مسجدُ الباطن، وقد أضافت للمحتوى الدراسي في ذلك الحين الحساب والجبرِ والهندسة والفلك، وكان الأستاذ المربي عبدالله العوجان أحدُ كبار العلماء يُدرِّسُ فيها تلك العلومَ مع مادة الفقه الحنبلي. ثم عاد الرشيدُ إلى الكويتِ عام (1903)، وتزوج من إحدى بنات الأسر الكويتية، وبعد أشهر من الزواج قرر الرحلة مرةً أخرى لمواصلة الدراسة، فاتجه إلى الأحساء حيث العالمُ عبدالله بن عبدالقادر المشهورُ بعلمه وكرمِه ونبلِ أخلاقه، وهناك جالَسَ العلماءَ والأدباء والشعراء، واطلع على البيئة التعليمية وأحوال الأحساء، ثم عاد أدراجه إلى الكويت مرة أخرى. وتذكر بعضُ المصادر رجوعَه مرةً أخرى بعد مدة قصيرة إلى الأحساء؛ لاستكمال الدراسة، ثم عاد إلى الكويت.
دراسته في بغداد ثم مصر ومراسلاته
- وفي عام (1911) حاول أن يرحل إلى بغداد لكن الوالدَ عارضَ سفرَه هذه المرة؛ رغبةً في أن يساعده في تكاليف الحياة، فتدخَّل الشيخُ عبدُالله الدحيان وقال: «إنَّ هذا الولدَ قد خُلق للعلم»، فقَنِعَ الوالدُ وترك عبدَالعزيز وشأنه.
- وفي بغداد انضم إلى مدرسة (الداودية)؛ حيث كان أحدَ أساتذتِها علَّامةُ العراق السيدُ محمود شكري الألوسي، الذي كان موسوعةً علمية كبيرة، وله شهرة واسعة في أرجاء العالم الإسلامي، ويجيد لغات عدة، مثل التركية والفارسية، إضافة إلى علم المنطق والجبر، فهو جامعةٌ متعددةُ الكليات، وفيها ألَّف الرشيدُ رسالة (تحذير المسلمين)، فحصَلَ له نوعُ شهرةٍ في الأوساط الثقافية. وتشير بعض المصادرُ إلى أنه رحل من بغداد إلى الأستانة ثم إلى مصر في عام (1913)، ثم قام الرشيد بأداء مناسك الحج، وحصل له من هذا الترحال التعرُّفُ إلى الأوضاعِ العلمية، والاطّلاعُ على معالمِ الحياة الثقافية وأحوالِ التيارات الفكرية والهيئات العلمية في تلك العواصم، وحصل له أيضاً التعرف إلى شخصيات وقامات ثقافية كبيرة، مثل السيدِ محمد رشيد رضا، والزعيمِ التونسي عبد العزيز الثعالبي، وعبدالقادر المغربي، وعالم الأزهر السيد محمد الخضر حسين. وفي أثناء طريق العودة إلى الكويت مكث عاماً في المدينة النبوية، ورَغِبَ أهلُها فيه؛ لحسن خلقِه وسَعَةِ علمه، وكان يواصل التعليم الذاتي عن طريق القراءة ومراسلة العلماء، مثل العلامةِ عبدالقادر بن بدران، والعلامةِ جمال الدين القاسمي، والعلامة ابن عزوز التونسي، والعلامة محمد بهجت البيطار، وهم أشهرُ علماء العصر في ذلك الزمان، وشملت مراسلاتُه بعضَ الأدباء والشعراء الذين كان لهم شهرة كبيرة في ذلك الحين. (الحجي: 2005).
البيئة السياسية والاقتصادية
- عند عودة عبد العزيز الرشيد من رحلته العلمية الطويلة كانت الكويت تحت حكم الشيخ مبارك الصباح؛ بل كانت آخر سنواتِ حكمه، وكان التنافس قوياً بين الدولة العثمانية والإمبراطورية البريطانية على الكويت. وفي تلك الفترة زار رشيد رضا (صاحبُ المنارِ) الكويت عام (1912)، وشارك الرشيد في الدفاع عن الكويت بالقلم وحمْلِ السلاح في معركة الجهراء الشهيرةِ، وجُرح فيها. وتعد مدينة الكويت ميناء له نشاط تجاري مع الهند والعراق وباقي موانئ الخليج العربي إلى عدن والهند وسواحل أفريقيا، وكانت من الحرف الرئيسية الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، أو صيدَ السمك، أو السفرَ على متن السفن الشراعية لتجارة التمور والأخشاب ونقل الخيول العربية الأصيلة (الحجي: 2005). والكويتُ في عام (1918) هي البوابةُ الكبيرة لنجد وداخل الجزيرة العربية، وكانت قوافلُ الجِمال الكبيرةِ تنطلقُ منها باستمرار، وهي تحمل منتجات العالم إلى أسواق الرياض وبريدة وعنيزة وشقراء، فقد كانت معظم المواد والبضائع تخرج من الكويت إلى الدول المجاورة. ولكنَّ الوضع الاقتصادي للكويت بدأ بالانحدار في العشرينات من القرن العشرين؛ حيث الكساد العالمي، وعلى المستوى المحلي ظهرت مشكلة اللؤلؤ الزراعي الذي طُوِّرَ في اليابان، التي أوقفت نشاط الغوص في الكويت.
البيئة الاجتماعية والثقافية
- تميز المجتمع الكويتي -منذ القدم- بالترابط الأسري، وتعد ثقافة المجتمع الكويتي امتدادًا للثقافة العربية الإسلامية، وأما طبيعة الموقع الجغرافي للكويت فكان له الأثر الأكبر بجعل المجتمع الكويتي مجتمعاً متفتحاً متقبلاً للثقافات المحيطة به وتأسست مرحلة جديدة لنهضة علمية، ولفتت انتباه مفكري العرب ومثقفيهم، ومنهم المؤرخ اللبناني أمين الريحاني في أثناء زيارته إلى الكويت، فقال: «على سواحل البلاد العربية شاهدت طلائعها في جدة، وفي لحج، وفي البحرين، وعندكم في الكويت، وإني أهنئكم أدباءَ الكويت وأفاضلَها». (الغنيم: 2011، ص 42).
لاتوجد تعليقات