الفكر التربوي عند الشيخ: عبد العزيز بن أحمد الرشيد (5)
الدراسة تستهدف التعرُّف على الفكرِ التربوي عند الشيخ عبدالعزيز الرشيد (ت 1356هـ، 1938م)، وإسهاماتِه في الحركة الثقافية، سواءٌ على مستوى الكويت أم خارجها، وذلك بالنظر إلى المشاريع التي قادها في هذا الاتجاه. وخلصت الدراسةُ إلى أن الشيخ عبد العزيز الرشيد رائدٌ من روّادِ الإصلاح الكبار على مستوى الكويت والخليج العربي، في اتجاهات عدة، ولاسيما التعليمُ وما استحدثه من مناهجَ جديدةٍ، اعتنى فيها بأركان العملية التعليمية (المتعلِّم، المعلِّم، المنهاج)، أدَّت إلى النهوض بالتعليم النظاميّ في الكويت. واتخذ الرشيد من إنشاء الصِّحافة وتأليفِ الكتب وإلقاء المحاضرات سبيلاً لإرساء النهضة الثقافية الكويتية مطلعَ القرن العشرين، وحاول جاهداً إبرازَ سماحة الدين الإسلامي في أحسن صورة، وأنه صالحٌ لكل زمان ومكان، وطبق ذلك عملياً في المشاريع التي تبنّاها، وأثبت أنه لا تعارض بين التطور الذي هو سِمةُ الحياة وبينَ الدين الإسلامي الحنيف.
رسالة المحاورة الإصلاحية
• أما رسالة (المحاورة الإصلاحية ،الرشيد: 2017)، فهي تصورٌ من الشيخ عبدالعزيز الرشيدِ لعلاج قضيةٍ تربوية كانت تعاني منها الساحةُ التعليمية في الكويت، وتسعى إلى إصلاح العملية التعليمية وتطويرها، ويظهر من هذه الرسالةِ أنها ثمرةٌ للرغبة في التطوير إلى الحديث والجديد في التعليم، لكنَّ الرشيدَ وجد الحضورَ الكثيفَ من أولياءِ الأمورِ ووجهاءِ الكويتِ فرصةً لشرح هدفِه التربوي من هذه المحاورة.
رأي الرشيد لا يخالفُ أصلاً
• وفعلاً استعرض طرحه الفكريَّ، واستطاع -بإخلاصِه لمبادئه بعد توفيقٍ من الله سبحانه- التفوقَ في هذا الطرح، وظهرت رغبة للإصلاحِ التعليميِّ الذي قاده بعزيمة وإصرار.( المحاورة الإصلاحية ،الرشيد: 2017 ص 3، 4، 8). ومما هو جدير بالذكر، أنَّ الرشيدَ صرحَ في هذه المحاورة بالاستدلال بالنظريات العصريةِ، وبالقولِ بأنَّ الأرضَ كرويةٌ، ومسألةِ تكوُّنِ السحابِ والمطرِ، وأيَّدَ رأيه بكلامِ عالمٍ من كبارِ علماء المسلمين، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية، ودللَ على أن هذا الرأي لا يخالفُ أصلاً من أصول الإسلام، لكنَّ عدم الرغبة في التطوير حال دون معرفة الكثير من النظريات الحديثة.(المحاورة الإصلاحية، الرشيد: 2017 ص 9 – 26).
رسالة الدلائل البينات
• ونتيجةً لما تقدمَ؛ يرى الباحثُ أنَّ الشيخَ عبد العزيز الرشيدَ يحملُ فِكراً تربوياً واضحَ المعالمِ، ويظهرُ ذلك جلياً باستخدامه استراتيجيةَ المحاضَرةِ وتبادل الأدوار؛ لإيصال أفكاره التعليمية للآخرين، وهذا من الأسباب التي ميزت المدرسةَ الأحمدية التي بدأت تشق طريقَها التربوي في الساحة الكويتية، عندما قام الشيخُ عبد العزيز الرشيد بعملية التحديث التربويِّ في المدرسة الأحمدية بإدخالِ اللغة الأجنبية في المنهاج الجديد، فعارضه بعضهم؛ فكتب رسالةَ (الدلائل البينات في حكم تعلم اللغات. الرشيد: 2017)؛ للرد على مخالفيه لدعوته الإصلاحية في التعليم، وهذه المعاناة تظهر جليةً للقارئ في المقدمة؛ حيث قال: «فهذه كلماتٌ حرَّرتها، والقلب ممتلىءٌ أسفاً وحزناً على ما وصلت إليه حالنا -معاشرَ المسلمين- من الانحطاطِ، وما أصابنا من التفرقِ والاختلاف، وما حلَّ بعلمائنا من الخمولِ المميت الذي غادرهم غارقين في بحار الجمود».
العقيدة لا تمس
• وفي هذه الرسالةِ يظهر تفوقُه العلمي على معارضيه، من خلال رد شبهاتهم الفكرية، ويلفت الباحثُ أيضاً نظرَ القارئ إلى الدور القِيَميِّ الذي تحلَّى به الشيخُ عبد العزيز الرشيدُ؛ فرغم تحمُّسِه الشديدِ لتعليم اللغات الأجنبية إلا أنه أكَّد الاهتمامَ بثقافةِ المتعلمين الدينية، وألَّا يُمَسَّ جانبُ العقيدة، واشترط شروطاً لذلك( الدلائل البينات في حكم تعلم اللغات. الرشيد: 2017ص 5)، منها: أولاً: أن يكونَ المتعلمُ راسخاً في الاعتقاد حتى يستطيع ردَّ الشبهاتِ التي تَرِدُ على الدين الإسلاميّ. ثانياً: إذا وُجد من بعض المعلمين من يُعرَف عنه الدعوةُ لغير الإسلام يُمنع فوراً، وبهذه الشروط جمع بين الاستفادةِ من تعلّم اللغات وبين الحفاظ على هوية المتعلِّم، وفي هذه الرسالة يلاحِظُ الباحثُ أن الشيخَ عبد العزيز الرشيد يبدأ بسرد الشبهة التي أثارها الخصومُ، ثم يقوم بنقضها، ويأتي بأجوبة لها، مدلِّلاً على صحة ما ذهب إليه بنصوص من القرآن والسنة، أو برأيِ مَن يُعتَمَدُ عليهم من علماء المسلمين في عصور مختلفة.
الأدلة النقلية من الكتاب والسنة
• فالباب الأول في رسالة (الدلائل البينات في حكم تعلم اللغات. الرشيد: 2017ص 5): خاص بالأدلةِ النقليةِ من الكتاب والسنة، وأفعال الصحابةِ وتقريراتِ العلماء على جواز تعلُّم اللغاتِ الأجنبة، وكان واضحاً في هذا الباب استدلالُه بالأحاديثِ الصحيحةِ من البخاري ومسلم، وأقوالِ أرباب المذاهب الإسلامية كالإمام أبي حنيفة، وبعض العلماء المحققين، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابنِ القيّم، وابن خلدون، ورشيد رضا، وقرَّرَ الشيخُ أنَّ هذا ما جرى عليه العمل في التاريخ الإسلامي من تعريبِ الدواوين من الرومية والفارسية والقبطية، وهذا لايتمُّ إلا بتعلُّم اللغات الأجنبيةِ، وقد أجاد وأفاد في هذا الباب.
الأدلة العقلية لتعلُّم اللغات
• وأما الباب الثاني في رسالة (الدلائل البينات في حكم تعلم اللغات. الرشيد: 2017ص 29): فهو خاصٌّ بالأدلة العقلية في جواز تعلُّم اللغات الأجنية؛ فبعد أن أكَّد الرشيد بالأدلة النقلية أن الشريعةَ الإسلامية لا تمانع تعلمَ اللغات الأخرى، انتقل إلى الحجج العقلية، وهذا من التسلسل المنطقي الذي يعطي قوةً في المناظرة للتفوق على الخصوم، ثم بدأ الرشيد بطرح هذه الأسئلة مع الإجابة عنها: كيف يمكن أن ندعو غير المسلمين ونحن لا نعرف لغتهم؟! كيف نردُّ على شبهات من يطعن في الإسلام؟ كيف نحققُ مصالح المسلمين وحاجةَ الدولة الإسلامية بالارتباط بالمعاهدات الدولية مع الدول غير الناطقة بالعربية؟
نقض أدلة المانعين النقليةِ والعقليةِ
• والباب الثالث في رسالة (الدلائل البينات في حكم تعلم اللغات. الرشيد: 2017 ص 36): خصصه الرشيدُ لنقض أدلة المانعين النقليةِ والعقليةِ التي احتجوا بها على حرمة تعلُّم اللغات الأجنبية، وقام بتتبع أدلتهم النقلية وحصرها في ثلاثة أحاديثَ، وبيَّن ضعفَها، وأنه لا يصحُّ الاستدلالُ بها، ونقل تضعيفَ العلامةِ ابنِ حجر العسقلاني لهذه الأحاديث في شرحه على صحيح البخاري، ثم بيَّن تعارضَها مع فعل الرسول ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - تكلَّم ببعض الكلمات الفارسية دون وجود حاجةٍ ، وكذلك فِعْل مجموعةٍ من الصحابةِ، تكلَّموا بالفارسيةِ وغيرِها.
نقض أدلة المانعين النقليةِ
• وقام بتوجيه ما رُوي عن بعض السلف من كراهية الكلامِ بالأعجمية، وقال: «إن ذلك عند عدمِ الحاجة»، أما إذا وُجدت الحاجة فلا مانع، وهذا محمول على الكراهةِ التي لا يعاقَب على فعلِها، ويمكن حمل ما ورد عن بعض السلف في المنع على الخوفِ من أن يُتخذَ ذلك عادةً تجرُّ إلى إغفال اللغةِ العربية، وعزَّز رأيه بكلامِ أصحاب المذاهب الأربعة بجواز ترجمة معاني القرآن الكريم لغير العربية ، وأكد في النهاية أنَّ كل قولٍ يخالف قولَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مردودٌ على صاحبه مهما عظمَ شأنُه في الإسلام.
نقض أدلة المانعين العقلية
• ثم قام بنقض أدلة المعارضين العقليةِ، وردَّ عليها، وبيَّنَ أن المسلمين قديماً كانت لهم مساهماتٌ حضارية حينما كانت اللغةُ العربية لغةَ العلم، ولم تكن الحاجةُ ماسّة لتعلم اللغات الأخرى بالنسبة للمسلمين الأوائل كالحاجة إليها الآن في الوقتِ الراهنِ، بعد أن تخلفَ المسلمون عن ركب الحضارة؛ بسبب تركِهم مصدرَ عزِّهم الإسلامَ، ومن حججهم: أن غالبَ من يتعلمون اللغاتِ الأجنبيةَ إنما تعلموها لأجل التجارة والمال، فكان الردُّ عليهم واضحا، وما المانع؟ وأنَّ هذا من حفظِ المال الذي هو من الضرورياتِ الخمسِ التي جاءت الشرائع بحفظها، وأنَّ الاشتغالَ بالتجارة ليس من المحرمات، وأنَ الوسائلَ لها أحكام المقاصد.
ليس كل أعمال غير المسلمين محرمة
• وقالوا أيضاً: إنَّ من تعلمَ اللغةَ الأجنبيةَ فسدَ دينُه وتغيرَ حالُه، وردَّ عليهم: أنَّ كثيراً من العلماء تعلموها ولم يفسدوا، بل على العكس تماماً؛ فقد دافعوا عن الإسلام في الصحف والمحافل الدولية وردوا شُبَهَات الملحدين الذين أثاروها على الإسلام، وواصل المعترضونَ بقولهم: يلزم مِن تعلمِ اللغاتِ الأجنبية التشبهَ بغير المسلمين، ونحن مأمورون بمخالفتهم، ويبدو أن الرشيد أدرك أهمية هذه الشبهةِ في مجتمع متدينٍ بالفطرةِ، وما يحمله الكويتيون من التعاطف الديني؛ نظراً لحبِّهم للإسلام وأهلِه؛ فأطال النَّفَسَ في ردِّ هذه الشبهةِ، فجاء الردُّ موفَّقاً؛ حيث قال: ليس كل أعمال غير المسلمين يحرُم على المسلمين محاكاتُهم فيها، ولا جميعُ أخلاقهم وسائرُ عوائدهم يُحظَر على المسلمين التخلُّق بها، ولا يمكننا أن نضرب صفحاً عن كل إصلاحٍ سبقونا إليه، لكنَّ المسألة فيها تفصيل.
ثلاثة أمور في تعلم اللغات
• أولا: الفنون والصنائع التي تتعلق بالقوى الحربية والصحة الجسدية والعمران والفلاحة والتجارة وكل ما هو مفيد، ربما يصل فيه تقليدُهم إلى الوجوب الشرعي.
• ثانيا: ما لا نفع فيه ولا ضرر: الأَولى تركُه وإن كان مباحاً.
• ثالثا: ما فيه ضرر محقَّق لنا: فهو حرام، والمظنون الضرر مكروه. ثم قام الرشيد في نهاية المطاف بنقل فتاوى علماء الإسلام، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة جمال الدين القاسمي، والسيد رشيد رضا صاحب المنار وغيرهم، على جواز تعلم اللغات الأجنبيةِ، وأن ذلك ليس من باب التشبه في شيء. وعبقريةُ الشيخِ عبد العزيز الرشيدِ في هذه الرسالة تكمن باستحداثه أسلوباً في الكتابةِ غير معهود ومختلف عن عصره، ويشبه إلى حد كبير الطريقةَ التي كتب بها تاريخ الكويت.
منهج مميز في التأليف
• والمطلعُ على طريقة التأليف في ذلك الزمن، يتضح له أن المنهجَ الذي سلكه الرشيدُ في التأليف منهج مميز مغايرٌ لما هو معهودٌ في عصره؛ فبمقارنة (المحاورة الإصلاحية) و(الدلائل البينات) و(تاريخ الكويت) برسالة (تحذير المسلمين)، سيجد كل باحث ما يلفت نظره، سواءً من حيثُ تطورُ الأسلوب الكتابي في الشكل والمضمون، أو من حيث أنه وظف قلمَه الرشيق وسعةَ اطلاعِه في كتابةٍ غير تقليدية، وجديدة في طريقتِها على المجتمع الكويتي، وأصبح يُكثر من استعمال التسلسل المنطقي والأسلوب الجدلي والحِجاج العقلي، ونحج في ذلك؛ حيث كان لهذه المؤلفات الصدى الكبير في المجتمع الكويتي، ولا يزال، وأدى ذلك لتغير أسلوب التأليف من بعده.
لاتوجد تعليقات