الفطرة السليمة بوصلة للحق
إن الفطرة التي إذا احتكم إليها المرء لا يضل هي مزيج من العقل والعاطفة إذا التقيا، فلم يطغ أحدهما على الآخر، كانت هي أقرب السبل الموصلة إلى الله -عز وجل- مقدمة كتاب (العلم يدعو إلى الإيمان، ص8)، إنها أصل الخلقة التي خلق الله الناس عليها، ولا شك أن هذه الفطرة، لا تظل عند الناس جميعهم كاملة ولا سالمة، وإنما تدخل عليها الملوثات؛ فتفسدها وتضيف إليها ما ليس منها، أما إذا بقيت على نشأتها الأولى كما خلقها الله -تعالى-؛ فهذه هي الفطرة السليمة، التي يصلح الاحتكام إليها، والسير بهدايتها؛ ولذلك قرر الله -تعالى- في القرآن أن الإسلام هو دين الفطرة، أي إنه الأصل، الذي إذا ما تجرد الإنسان من الدواخل، ثم دُعي إليه؛ فإنه سيجد في نفسه القبول له، والإقبال عليه، من غير تكلف ولا عناء، قال الله -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة الروم ، آية: 30).
ملوثات الفطرة
لقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصعوبات التي تنشأ في طريق الهداية، وبين أن سببها ما يدخل على هذه الفطرة من مؤثرات تتعلق بالبيئة، والتربية، والأفكار، والعقائد السائدة؛ فقال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» (متفق عليه)، وهذا معناه أنه لو ترك المولود دون تدخل في عقيدته، ثم دُعي إلى الإسلام؛ فإنه سيجد في نفسه انقياداً له، وقبولا لهداياته، بسهولة، لانتفاء العوائق.
هذه الفطرة هي ما ينبغي أن يسعى كل باحث عن الحق، نحو الوصول إليها، وأنه لن يُوفَّق، إلا حين يتجرد من أهواء نفسه؛ وإلا فإنه سوف يحيا، رغم بحثه، هائماً على وجهه، معذباً بالأوهام، والشكوك، والظنون، والخواء، دون أن يصل إلى شيء.
كما كان شأن (برتراند راسل) -وهو أحد كبار الملاحدة في القرن العشرين الميلادي-؛ فقد أشارت ابنته (كاترين) إلى حالة الفراغ الروحي، التي كان يحياها، بسبب عدم تصالحه مع فطرته، حين قالت: إنه كان يشعر دائماً بوجود مكان شاغر في عقله وفي قلبه، مكان كان يشغله الرب عندما كان راسل صغيراً، ثم أصبح خاوياً، ولم يجد شيئاً يملؤه!
الاحتكام إلى الفطرة سهل
فهو ميسور، لا يحتاج إلى علم غزير ولا نظري فلسفي، إنما يحتاج فقط، إلى صدق التوجه والقصد، ونظرة متجردة من الهوى إلى صفحات الوجود، بما فيه من شمس وقمر ونجوم، وسماء وأرض، وليل ونهار، ونبات وحيوان وإنسان وجماد، وموت وحياة، إن نظرة واحدة إلى أية صورة من هذه الصور المتعددة المتشعبة، لتشي من غير تكلف بأن وراءها مالكاً، هو الذي أبدعها، وصانعاً هو الذي أتقنها، وقادراً هو الذي يدبر سير حركتها.
ولذلك لا شيء أبلغ في دعوة الملحدين، وأضرابهم من أصحاب الفكر الضال، أياً كان نوع ضلالهم، من إرشادهم إلى التماس الهداية باللجوء إلى الله -عز وجل- في الخلوات، أن نرشدهم إلى الحق، من غير واسطة بينهم وبين خالقهم -سبحانه وتعالى-، وهذا هو عين ما كان يرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحرص عليه في دعائه: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (رواه مسلم).
بين صوت الفطرة وعناء الجدل
إن الفطرة دليل ينبغي أن يتمسك به الإنسان، ويلتجئ إليه في طريقه إلى الحق، وبحثه عن الخالق؛ لذلك يقول د/ مصطفى محمود بعد عودته إلى الحق: «ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة، وتركت البداهة تقودني، لأعفيت نفسي من عناء الجدل، ولقادتني الفطرة إلى الله».
ومما جاء في كتابه القيم: (رحلتي من الشك إلى القين) قوله: أعلى درجات المعرفة هي ما يأتيك من داخلك؛ فأنت تستطيع أن تدرك وضعك، هل أنت واقف أو جالس أو راقد، دون أن تنظر إلى نفسك، يأتيك هذا الإدراك وأنت مغمض العينين، يأتيك من داخلك، وتقوم هذه المعرفة حجة على أية مشاهدة.
و حينما تقول: أنا سعيد، أنا شقي، أنا أتألم فكلامك يقوم حجة بالغة، ولا يجوز تكذيبه بحجة منطقية، بل إن تناول هذا الأمر بالمنطق هو تنطع ولجاجة لا معنى لها، فلا أحد أعرف بحال نفسك من نفسك ذاتها .
وبالمثل شهادة الفطرة، وحكم البداهة هي حجة على أعلى مستوى، وحينما تقول الفطرة والبداهة مؤيدة بالعلم والفكر والتأمل، حينما تقول بوجود الروح و النفس و بالحرية و بالمسؤولية والمحاسبة, وحينما توحي بالتصرف على أساس أن في الكون نظاما؛ فنحن هنا أمام حجة على أعلى مستوى من اليقين.
وهو يقين مثل يقين العيان أو أكثر؛ فالفطرة عضو مثل العين نولد به، وهو يقين أعلى من يقين العلم؛ لأن الصدق العلمي هو صدق إحصائي، والنظريات العلمية تستنتج من متوسطات الأرقام، أما حكم البداهة فله صفة القطع والإطلاق، لا يجوز عليها ما يجوز من نسخ وتطور وتغير في نظريات العلم؛ لأنها مقبولة بديهية .
1 + 1= 2 مسألة لا تقبل الشك؛ لأنها حقيقة ألقتها إلينا الفطرة من داخلنا، وأوحت بها البداهة وهي معرفة أولى جاءت إلينا مع شهادة الميلاد .
لو أدرك الإنسان هذا لأراح واستراح، ولوفر على نفسه كثيرا من الجدل، والشقشقة، والسفسطة، والمكابرة في مسألة الروح، والجسد، والعقل، والمخ والحرية، والجبر، والمسؤولية، والحساب، ولاكتفى بالإصغاء إلى ما تهمس به فطرته، وما يفتي به قلبه، وما تشير به بصيرته.
وذرة من الإخلاص أفضل من قناطير من الكتب .
الفطرة تهدي إلى الله
فليست علة أصحاب الأفكار الشاذة والدعاوى الباطلة من الملحدين وغيرهم، ممن يرى رأيهم ويقول بأقوالهم، هي عوز الأدلة التي تدل على الحق، أو ترشد إليه، بل هي من القوة والظهور ما لا يخفى على عاقل، ولكن العلة بالأساس هي انتكاس الفطرة لوقوعها تحت سلطان الشهوات والهواء، ولو أنصف الإنسان نفسه من نفسه واحتكم إلى فطرته في لحظة صدق مع الذات، وتحرر من أهوائه، لوصل إلى الحق من أقصر الطرق؛ ولذلك فإن أبلغ نصيحة يمكن أن نقدمها لضالٍ حاد عن طريق الحق، هو أن نرشده إلى العودة إلى فطرته، عندها ستصبح الأدلة المادية في الكون والدينية في القرآن والسنة والسيرة النبوية المطهرة، مكملة ومثبتة لما هو مركوز في الفطرة من الحق؛ ولذلك يقول ابن تيمة -رحمه الله-: «إن الله فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها»؛ «فإن الفطرة تعلم الأمر مجملاً، والشريعة تفصله وتبينه، وتشهد بما لا تستقل الفطرة به»، «ومثل الفطرة مع الحق مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس» (مجموع الفتاوى، ج4، ص45، 247، ج5، ص260).
لاتوجد تعليقات