رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: نور الدين عيد 10 يوليو، 2018 0 تعليق

الفتور بعد مواسم الطاعات

      مِن رحمة الله بعباده (مواسم الخيرات)، يقرِّب بها عباده، ويرحم ضعفهم، فيبارك ويشكر ويعفو ويرحم؛ فله الحمد على نعمائه، وإن هذه النفحات مِن الرحمن الرحيم لا بد أن تُغتنم، وإلا صار صاحبها مغبونًا غافلًا، لا يعرف لله شكرًا، ولا يقدر لله نعمًا؛ فإن أصاب العبد توفيق الله في هذه المواسم، أقامه حيث نادى، وألزمه مراده ومحابه، وهذا يكسر العبد ويحمله على ديمومة شكر ربه، فلا يبعد بعد إذ قربه، ولا يترك بعد إذ أقامه، فيديم له الشكر، ويواظب على الذكر، ولكن التفاوت بيْن ما كان وما سيكون هائل، في العمل والثمرة، في الهمة واللذة.

إن شأن التفاوت الذي يكون بيْن مواسم الطاعات وغيرها شيء مشروع، جَرَت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - به؛ فاجتهاده في موسم الطاعة أشد، وشكره لربه بعبادته أظهر؛ فإذا انقضى الموسم عاد حاله أقل، لكن بلا تركٍ ولا هجرٍ ولا مخالفةٍ.

      عن عبد الله بن عمرو قال: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رِجَالٌ يَجْتَهِدُونَ فِي الْعِبَادَةِ اجْتِهَادًا شَدِيدًا، فَقَالَ: «تِلْكَ ضَرَاوَةُ الْإِسْلَامِ وَشِرَّتُهُ، وَلِكُلِّ ضَرَاوَةٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى اقْتِصَادٍ وَسُنَّةٍ فَلِأُمٍّ -أي قصد الطريق المستقيم- مَا هُوَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى الْمَعَاصِي، فَذَلِكَ الْهَالِكُ» (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

     فالفتور الذي يعقب الاجتهاد في الطاعة شيء جبلي، لا يقدح في تمام الإيمان، ولا تمام الحب والعبادة، فلقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره مِن ليالي العام، وكان يزيد اجتهاده في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره مِن ليالي الشهر، عن عائشة قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» (رواه مسلم).

     وإذا كان في ساعة عرض عمله ما أصاب غفلة ولا تركًا، بل يزاحم الوقت عبادة، كما في أيام الاثنين والخميس، وشهر شعبان، ما كان يترك صيامهم لعرض عمله فيهم، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم - َ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ لِلَّهِ فِي شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا، بَلْ كَانَ يصومه كله» (رواه مسلم وأحمد واللفظ له).

وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس فقيل له؟ فقال: (ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).

      فهذا نوع اجتهاد مِن قبيل شكر النعمة لهذه المنن، فإما يشكرها وإما يكفرها؛ لذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ لِي فَقَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ» (رواه الحاكم، وقال الألباني: صحيح لغيره)، فهذا نوع حرمان وعقوبة لمَن لم يشكر نعمة ربه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، يعني ليلة القدر. وهذا واضح الدلالة على أن عدم شكر نعمته ومنته تقابل بالحرمان والخذلان، فنحمد الله على توفيقه، ونستغفره على تقصيرنا وسوء صنيعنا وغفلتنا.

     ومِن المقترح أن يواظب العبد على أجناس الخيرات التي وفق لها وأُعين عليها في هذه المواسم، يضرب بسهمٍ فيها فلا يكن تاركًا ولا جاحدًا؛ فيكن له نصيب مِن الليل، ولو أن يركع ركعتين بعد سنة العشاء ولو بالمسجد قبْل أن يخرج منه، ولا يترك نفسه تراوده بالترك، بل يأخذها وقت نشاطها، عن أنس بن مالك قال: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: (مَا هَذَا؟) قَالُوا: لِزَيْنَبَ تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ، أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ: «حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ، أَوْ فَتَرَ قَعَدَ» (متفق عليه)؛ فليحذر الترك بعد فتح الباب والعون عليه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» (متفق عليه)، فهذا نهي له على عدم ترك العبادة المعان عليها، فيكون زهدًا منه في مراضي ربه، بل ليكن مِن أهلها ولو قلَّ حظه.

     ومِن هذه الأجناس التعبدية في هذه المواسم: الصلاة، والصيام، والدعاء، والصدقات، والذكر والقرآن، تعلمًا وتعبدًا، فمما ينبغي للحصيف أن يكون له مِن جنس كل عمل منهم ورد يوميًّا، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:152)، فوظائف اليوم والليلة وردك الثابت الذي لا يَقبل الترك ولا النقص، مِن الأذكار والنوافل الراتبة وقراءة شيء مِن كتاب الله ولو صفحة واحدة؛ بمثل هذا يستقر الإيمان في زيادته، ولا ينحدر القلب بعيدًا؛ فإن الفتور يرد بعجلة فاستدفعه بالسُّنة لا بالكسل فيصير داءً يتمكن مِن قلبك وجوارحك.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك