الفارق ما بين مراكزهم ومراكزنا!!
فلدى الكيان الغاصب ما لا يقل عن 45 عالماً لكل 10.000 مواطن ، وينفق 3 % من مجمل الدخل القومي على البحث والتطوير، ويعمل في مجال العلم والتكنولوجيا ما يقارب %33 من مجموع الطاقة البشرية (الإسرائيلية) العاملة.
واستطاعت هذه المراكز وما حوته من باحثين وما توفر لهم من إمكانات وأدوات أن تصل بنتاجها إلى التأثير في يهود الداخل والخارج، وأثرت في الرأي العام العالمي ووسائل الإعلام وصناع القرار، وباتت مراكز الدراسات في الكيان الصهيوني تزداد عدداً ونتاجاً، وأضحت الدراسات أكثر عمقاً وتخصصاً، فلم تقتصر على قراءة الواقع واستخلاص العبر من الماضي فقط، وإنما أيضاً تطلعت لاستشراف المستقبل، وبالأخص فيما يتعلق بالمشرق الإسلامي ومكنوناته، وتطورات مجتمعاته.
ومن غير عناء يمكن للدارس أن يلاحظ الفرق الهائل بين ما تمثله مراكز الدراسات في الكيان المحتل وما تمثله المراكز في العالم العربي والإسلامي وحجم النتاج المعلن في كلِ منها.
ففي دراسة قام بها مدير برنامج مراكز التفكير والمجتمع المدني في برنامج العلاقات الدوليَّة بجامعة (بنسلفانيا) في مدينة (فيلادلفيا) الأمريكية نشرتها مجلة (Foreign Policy) في عدد كانون الثاني / شباط 2009، جاء أنَّ عدد هذه المراكز في الولايات المتحدة الأمريكية وصل ما يقارب (1872) مركزًا منتشرة في جميع الولايات الأمريكية من إجمالي حوالي (4000) مركز على مستوى العالم، وقد أطلق عليها منذ ظهورها (بيوت الخبرة).
في حين ذكرت الإحصائية أنَّ عدد هذه المراكز في العالم العربي لا يتجاوز (25) مركزًا، كثيرٌ منها يفتقر لأبسط الإمكانات التي تؤهله للقيام بعمله، في حين أنَّ عدد المراكز في الدولة اليهوديَّة أكثر من (20) مركزًا ضخمًا، بخلاف تلك المراكز التي يمولها اليهود في دول الغرب والولايات المتحدة لتوجيهها إلى ما يخدم أهدافها.
وقد أشار إلى ذلك اثنان من الكتاب اليهود المعروفين هما: (سيمور ليبست)، و(إيرل راب) في كتابهما: (اليهود والحال الأمريكي الجديد) المنشور عام 1995 حيث يقولان: «شكل اليهود خلال العقود الثلاثة الماضية 50% من أفضل 200 مثقف بالولايات المتحدة، و20% من أساتذة الجامعات الرئيسة. ولا مجال لإنكار قوة المراكز اليهودية، فالدولة التي تنفق ما مقداره 4.7% من إنتاجها القومي على البحث العلمي - وهذا يمثل أعلى نسبة إنفاق في العالم - لا بد أن تصل إلى هذا المستوى، في الوقت الذي تنفق فيه الدول العربية مجتمعه ما مقداره 0.2% فقط من دخلها القومي على البحث العلمي»، كما أشار إلى ذلك العالم المصري د./ أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء؛ حيث أوضح أن إنتاج العالم العربي من المعارف الإنسانية لا يتجاوز 0.0002% من إنتاج العالم، بينما ينتج اليهود 1.0% من المعارف العالمية، أي إن اليهود ينتجون أبحاثًا ومعارف 5000 مرة أكثر من العالم العربي.
تاريخ القدس في الجامعات الغربية :
مما يندى له الجبين ندرة البحوث والدراسات - لاسيما في الجامعات الغربية - التي تتناول بيت المقدس من وجهة تاريخية أكاديمية معاصرة مستمدة من الثوابت الإسلامية والعربية، وترادف مع ذلك وفرة الدراسات الغربية في الجامعات والمراكز البحثية التي تشوه وتحرف وتزيف بطريقة متعصبة حاقدة تخدم الرؤى اليهودية والاستشراقية.
وهذا ليس جديدا على الدراسات اليهودية والاستشراقية التي تعمل على تقليل أهمية المصادر العربية والإسلامية المتعلقة ببيت المقدس بعد أن فتحها أمير المؤمنين - عمر رضي الله عنه - أو للتقليل من أهميتها ومكانتها في الإسلام والتشكيك في النصوص التي جاءت في الكتاب والسنة وكتب السير والفقه؛ كل ذلك بهدف إلغاء الحقائق والتشكيك في الثوابت لكتابة تاريخ جديد لبيت المقدس من وجهة نظر أحادية يهودية متعصبة، تعمل على إلغاء الوجود العربي والإسلامي، بل تعده طارئا على المنطقة، وفي بعض الأحيان أنه محتل لأرض اليهود!!
(القدس.. دراسات في تاريخ المدينة):
يقول المستشرق اليهودي (أمنون كوهين) الأكاديمي والباحث النشط في الجامعة العبرية في القدس المحتلة في مقدمة تحريره لكتاب: (القدس.. دراسات في تاريخ المدينة): «إن هناك أبحاث عديدة تجري في الوقت الراهن في جميع الجامعات والمعاهد العلمية المختصة في (إسرائيل) تتناول المجالات التي انتقيت منها أبحاث هذه المجموعة». ويضيف (كوهين): «ومن الجدير أن تنقل نتائج هذه الدراسات، لا بل تفاصيلها أيضاً، إلى الباحثين العرب في الشرق الأوسط!!
لم يكتف هذا الباحث بنشر الأباطيل والتاريخ المشوه، والأحداث المصنوعة، بل يطلب أيضاً وبكل جرأة بأن نوسع مداركنا – نحن العرب والمسلمين – ونقرأ كتابه الذي يسهم – حسب تعبيره – في توسيع فهم تاريخ القدس بين محبيها من أبناء جميع الأديان، وفي خلق جو يشجع زيادة التفاهم والتقارب بين اليهود والعرب!!
بل يصدر ويطبع كتابه باللغة العربية – بطباعةٍ متقنة – للقارئ العربي، فيقول : «والآن، نورد ولأول مرة للقارئ العربي دراسات مختارة نشرها بالعبرية باحثون (إسرائيليون) في كتب صدرت في العشر السنوات الأخيرة عن (ياد بن تسفي)، تلقي هذه الدراسات الضوء على نواح مختلفة لتاريخ القدس منذ صدر الإسلام وحتى أيامنا هذه» .
والكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين عمل وما زال لإكساب احتلالهم لبيت المقدس شرعية دينية وتاريخية وواقعية وأثرية وقانونية، بل إنسانية في بعض الأحيان!! وبالمقابل نجد أن الكثير من الدراسات العربية للباحثين العرب والمسلمين تنقصها المنهجية العلمية في البحث والتمحيص، ويغلب على أكثرها الأسلوب العاطفي الذي لا يكفي وحده؛ وهذا ما أدى إلى غياب النتاج الأكاديمي الرصين وانحساره؛ مما جعل كتابات الكثير من العرب والمسلمين ودراساتهم تتمحور حول جوانب محددة فقط، وكذلك نشرها في العالم الإسلامي محدود . وفي المقابل نرى أن نتاج تلك المؤسسات الأكاديمية الاستشراقية ومراكز الدراسات التي تتبع رسمياً الدولة العبرية ، يملأ الساحة الأكاديمية والثقافية!! وهذا ما يدفعنا للسؤال: كم دراسة عربية متخصصة وضعت عن الحركات الدينية اليهودية وتطوراتها سواء في داخل الكيان الصهيوني أم في خارجه؟
يقول الدكتور عبد الفتاح العويس حول الدراسات المتعلقة ببيت المقدس في المنطقة العربية: لا توجد إلى الآن جامعة عربية أو مسلمة تدرس هذا الحقل المعرفي الذي تُمنح فيه درجتا الماجستير والدكتوراه، أو حتى تطرحه مساقاً، بينما يدرس في الجامعة العربية والمسلمة لطلبة البكالوريوس (الإجازة) على الرغم من النص على هذا الأمر في التوصيات الصادرة عن عدد من المؤتمرات والندوات.
ويضيف: والأخطر من ذلك أن تشكل تلك الدراسات والبحوث والمطبوعات (المشبوهة) المصدر والمرجع لنا!! وأصبحت بذلك عقولنا وحصوننا مهددة من الداخل؛ فالكتابات تنشر باللغة العربية والبرامج والثقافية تبث باللغة العربية، ومواقع في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) سودت فيها الصفحات المشككة في مكانة بيت المقدس التي تنشر باللغة العربية، والطامة أن تكون تلك المادة تعد مرتعاً لكتاب عرب ومسلمين ينشرون قاصدين أو مخدوعين بعض تلك الشبهات!!
وأضحى بهذه الدراسات والبحوث الأكاديمية المستشرق اليهودي سياسيا من الدرجة الأولى، ونتاجه الأكاديمي في تناغم وانسجام وتخطيط مع ما يهدفون إليه مع مؤسساتهم الاحتلالية؛ فاستراتيجية المؤسسات الأكاديمية اليهودية هي نشر ما تنتجه مراكزهم المتناسقة مع المشروع الاحتلالي على أرض فلسطين، وشغل الآخرين بردود الأفعال التي لا ترتقي في الكثير من الأحيان لمستوى الجهد والخداع الذي أخرجته تلك المؤسسات؛ فهم يصنعون الفعل، بينما صاحب الحق يجمع ليرد، وإذا بفعل آخر يبث ويخرج للعلن، وهكذا دواليك.
وأراد اليهود بذلك النشر أن نتحول إلى مواقع الدفاع، بينما الصهاينة المغتصبون ومن والاهم ينفردون بالتخطيط المتقن التدريجي ببرامج إستراتيجية لتحقيق غاياتهم، وعملوا على أن يكون أصحاب الحق وهم العرب والمسلمون وأهل فلسطين والباحثون في هذا المجال همهم الردود ومتابعة أقوالهم، بينما هم يثيرون الأكاذيب والأساطير والشبهات ويلبسونها ثوب البحث العلمي لكل ما هو قابل للبحث والتنقيب؛، وجعلوا تلك الشبهات تتتالى وتتتابع لإضعاف الطرف الآخر ليصل إلى مرحلة يصعب معها الرد؛ حيث يتسع «الرقع على الراقع»؛ ويتحول الضحية صاحب الحق متنقلاً من موقع دفاعي إلى آخر!!
لذا تتعاظم الآن حاجتنا لمؤسسات علمية متخصصة جادة في بحثها ونتاجها العلمي والحضاري الذي يكون مرجعاً وسنداً للأمة، وحماية لأجيالنا من بحر الشبهات الذي تتلاطم أمواجه لتقذف بهذا الزبد إلى شواطئنا!!
فعلى مراكزنا وجامعاتنا أن تتبنى المساقات العلمية والدراسات المتخصصة لبيت المقدس والقدس وأرض فلسطين. وأن تكون تلك المراكز مستقلة وتبني تعاوناً إيجابياً بين المراكز العلمية وبين مؤسسات الدولة والسلطة؛ لتحقق التكامل المنشود في تشجيع البحث العلمي وخلق بيئة أكاديمية وتعليمية إبداعية متميزة في مجال دراسات بيت المقدس، وتأسيس برامج مميزة للدراسات العليا لمنح درجتي الماجستير والدكتوراة، وتكون معتمدة من جامعات عربية وإسلامية.
وتوفير البيئة البحثية التي لابد منها للباحث المخلص حتى يجيد مخرجاته ويبذل جهده بالشكل المطلوب، وتدريب طلبة علم مؤهلين ومحترفين في معرفة مداخل ومخارج البحوث الاستشراقية واليهودية وطرق النقاش والرد، وأن يكونوا مؤهلين لتقديم الفعل وألا يقتصر عملهم على ردور الأفعال ودحض الشبهات فقط.
لاتوجد تعليقات