رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أمير الحداد 20 أبريل، 2015 0 تعليق

الغفور الرحيم(2)

     {والله غفور رحيم} وهذا يدل على أنه غفر لهم ورحمهم ولذلك قال العلماء في قول الله تعالى في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(المائدة: 33-34) أخذ العلماء من هذه الآية أن هؤلاء المفسدين المحاربين لله ورسوله، إذا تابوا قبل القدرة عليهم سقط عنهم العذاب، واستدلوا بأن الله ختم الآية بقوله: {فاعلموا أن الله غفور رحيم} أي: قد غفر لهم فرحمهم، وهذه مسألة ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها في الآيات.

     إن ختم الآية بعد ذكر الحكم دليل على ما تقتضيه هذه الأسماء التي ختمت بها الآية، ولهذا قرأ رجل فقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم}، فسمعه أعرابي عنده، فقال له: أعد الآية، فأعادها، وقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم} قال له: أعد الاية، فأعدادها، فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(المائدة: 38)، فقال: الآن أصبت، ثم علل فقال: لأنه لو غفر ورحم ما قطع، ولا تتناسب المغفرة والرحمة مع القطع، لكنه عز وحكم فقطع، فتأمل هذا الفهم فإنه مفيد جداً، والشاهد من هذا أن قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(الحجرات: 5) يدل على أن الله غفر لهم ورحمهم.

     وقوله: {إن الله كان غفورا رحيما} يناسب أن يكون معنى {إلا ما قد سلف} تقرير ما عقدوه من ذلك في عهد الجاهلية؛ فالمغفرة للتجاوز عن الاستمرار عليه، والرحمة لبيان سبب ذلك التجاوز.

     والمراد بالاستغفار التوبة وطلب العفو من الله عما مضى من الذنوب قبل التوبة، ومعنى{يجد الله غفورا رحيما} يتحقق ذلك، فاستعير فعل (يجد) للتحقق؛ لأن فعل (وجد) حقيقته الظفر بالشيء ومشاهدته؛ فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة، ومعنى {غفورا رحيما} شديد الغفران والرحمة؛ وذلك كناية عن العموم والتعجيل، فيصير المعنى يجد الله غافرا له راحما له، ولا يتخلف عنه شمول مغفرته ورحمته زمنا، فكانت صيغة {غفورا رحيما} مع (يجد) دالة على القبول من كل تائب بفضل الله.

     والتعريف في (السر) تعريف الجنس يستغرق كل سر، ومنه إسرار الطاعنين في القرآن عن مكابرة وبهتان، أي: يعلم أنهم يقولون في القرآن ما لا يعتقدونه ظلما وزورا منهم، وبهذا يعلم موقع جملة: {إنه كان غفورا رحيما} ترغيبا لهم في الإقلاع عن هذه المكابرة وفي اتباع دين الحق ليغفر الله لهم ويرحمهم؛ وذلك تعريض بأنهم إن لم يقلعوا ويتوبوا حق عليهم الغضب والنقمة.

     وبه يظهر موقع اسم الإشارة في قوله: {فأولئك} المفيد التنبيه على أنهم أحرياء بما أخبر عنهم به بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة، أي: فأولئك التائبون المؤمنون العاملون الصالحات في الإيمان يبدل الله عقاب سيئاتهم التي اقترفوها من الشرك والقتل والزنا بثواب، ولم تتعرض الآية لمقدار الثواب وهو موكول إلى فضل الله؛ ولذلك عقب هذا بقوله: {وكان الله غفورا رحيما} المقتضى أنه عظيم المغفرة.

وجملة {إن الله كان غفورا رحيما} تعليل للجزاء والتعذيب كليهما على التوزيع، أي: غفور للمذنب إذا أناب إليه، ورحيم بالمحسن أن يجازيه على قدر نصبه.

     وجملة: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} تذييل للكلام وإيذان بأن المقصود منه العمل والامتثال؛ فلذلك جمع هنا بين صفة {سريع العقاب} وصفة {الغفور} ليناسب جميع ما حوته هذه السورة.

     واستعيرت السرعة لعدم التردد ولتمام المقدرة على العقاب؛ لأن شأن المتردد أو العاجز أن يتريث وأن يخشى غائلة المعاقب؛ فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب، وليس المراد سريعه من الآن حتى يؤول بمعنى: كل آت قريب، إذ لا موقع له هنا.

     ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف {سريع العقاب} على موكد واحد، وتعزيز وصف {الغفور الرحيم} بمؤكدات ثلاثة، وهي إن، ولام الابتداء، والتوكيد اللفظي؛ لأن (الرحيم) يؤكد معنى: (الغفور)، ليطمئن أهل العلم الصالح إلى مغفرة الله ورحمته، وليستدعي أهل الإعراض والصدوف إلى الإقلاع عما هم فيه.

     وتأكيد الخبر بأن، ولام التوكيد، وصيغتي المبالغة في {غفور رحيم} لمزيد الاهتمام به ترغيب للعصاة في التوبة، وطرد للقنوط من نفوسهم، وإن عظمت ذنوبهم، فلا يحسبوا تحديد التوبة بحد إذا تجاوزته الذنوب بالكثرة أو العظم لم تقبل منه توبة.

وضمير (من بعدها) الثاني مبالغة في الامتنان بقبول توبتهم بعد التملي من السيئات.

وحذف متعلق {غفور رحيم} لظهوره من السياق والتقدير، لغفور رحيم لهم، أو لكل من عمل سيئة وتاب منها.

     وجملة {إن ربي لغفور رحيم} تعليل للأمر بالركوب المقيد بالملابسة لذكر اسم الله تعالى؛ ففي التعليل بالمغفرة والرحمة رمز إلى أن الله وعده بنجاتهم، وذلك من غفرانه ورحمته، وأكد بـ(إن) ولام الابتداء تحقيقا لاتباعه بأن الله رحمهم بالإنجاء من الغرق.

     وجملة {إن الله لغفور رحيم} استئناف عقب به تغليظ الكفر والتهديد عليه تنبيها على تمكنهم من تدارك أمرهم بأن يقلعوا عن الشرك، ويتأهبوا للشكر بما يطيقون، على عادة القرآن من تعقيب الزواجر بالرغائب كيلا يقنط المسرفون.

     وقد خولف بين ختام هذه الآية وختام آية سورة إبراهيم؛ إذ وقع هنالك{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(إبراهيم: 34)؛ لأن تلك جاءت في سياق وعيد وتهديد عقب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا}(إبراهيم: 28)؛ فكان المناسب لها تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله.

وأما هذه الآية فقد جاءت خطابا للفريقين، كما كانت النعم المعدودة عليهم منتفعا بها كلاهما.

     ثم كان من اللطائف أن قوبل الوصفان اللذان في آية سورة إبراهيم {لظلوم كفار} بوصفين هنا {لغفور رحيم} إشارة إلى أن تلك النعم كانت سببا لظلم الإنسان وكفره، وهي سبب لغفران الله ورحمته، والأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان.

     {إن ربك لغفور رحيم} وهذه الآية تدل على أن السيئات بأسرها مشتركة في أن التوبة منها توجب الغفران؛ لأن قوله: {والذين عملوا السيئات} يتناول الكل، والتقدير: أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب، فإن الله يغفرها له، وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين. والله اعلم.

وأما قوله: {إن ربي لغفور رحيم} ففيه سؤال وهو أن ذلك الوقت وقت الإهلاك وإظهار القهر، فكيف يليق به هذا الذكر؟

     وجوابه: لعل القوم الذين ركبوا السفينة اعتقدوا في أنفسهم أنّا إنما نجونا ببركة علمنا؛ فالله تعالى نبههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب منهم، فإن الإنسان لا ينفك عن أنواع الزلات وظلمات الشهوات، وفي جميع الأحوال فهو محتاج إلى إعانة الله وفضله وإحسانه، وأن يكون رحيما لعقوبته غفورا لذنوبه.

     {وهو الغفور الرحيم} يشير إلى أن إعطاء الخير فضل من الله ورحمة وتجاوز منه تعالى عن سيئات عباده الصالحين، وتقصيرهم وغفلاتهم، فلو شاء لما تجاوز لهم عن شيء من ذلك فتورطوا كلهم.

     ولولا غفرانه لما كانوا أهلا لإصابة الخير؛ لأنهم مع تفاوتهم في الكمال لا يخلون من قصور عن الفضل الخالد، الذي هو الكمال عند الله، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة».

وجملة: {إنه هو الغفور الرحيم} في موضع التعليل لجملة وأستغفر لكم ربي»، وأكد بضمير الفصل لتقوية الخبر.

     {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزمر: 53)، والموصوفة معانيها بالرقة نحو: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69)}(الزخرف: 68 - 69)، وقد علم في فن الخطابة أن للجزالة مقاماتها وللسهولة والرقة مقاماتهما.

     الجهة الثالثة من جهات هذا الوصف: أعجوبة جمعه بين التأثيرين المتضادين: مرة بتأثير الرهبة، ومرة بتأثير الرغبة، ليكون المسلمون في معاملة ربهم جارين على ما يقتضيه جلاله وما يقتضيه حلمه ورحمته، وهذه الجهة اقتضاها الجمع بين الجهتين المصرح بهما وهما جهة القشعريرة وجهة اللين، مع كون الموصوف بالأمرين فريقا واحدا، وهم الذين يخشون ربهم، والمقصود وصفهم بالتأثر عند تعاقب آيات الرحمة بعد آيات الرهبة.

     ومادة الغفر ترجع إلى الستر، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجه للستر، فدل (يغفر الذنوب) على أن الذنوب ثابتة، أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها، أي يزيل المؤاخذة بها، وهذه المغفرة تقتضي أسبابا أجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}(طه: 82)، وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسبابا تطرأ على المذنب، ولولا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثا ينزه عنه الحكيم تعالى، كيف وقد سماها ذنوبا وتوعد عليها فكان قوله: {إن الله يغفر الذنوب}، دعوة إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها و{جميعا} حال من (الذنوب)، أي: حال جميعها، أي: عمومها، فيغفر كل ذنب منها إن حصلت من المذنب أسباب ذلك.

     وجملة {إنه هو الغفور الرحيم} تعليل لجملة {يغفر الذنوب جميعا} أي: لا يعجزه أن يغفر جميع الذنوب ما بلغ جميعها من الكثرة؛ لأنه شديد الغفران، شديد الرحمة،  فبطل بهذه الآية قول المرجئة إنه لا يضر مع الإيمان شيء.

وأوثرت صفتا (الغفور الرحيم)، هنا للإشارة إلى أن الله غفر لهم أو لأكثرهم اللمم وماتابوا منه، وأنه رحيم بهم؛ لأنهم كانوا يحبونه ويخافونه ويناصرون دينه.

     وجملة:{أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الشورى: 5)، تذييل لجملة {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}(الشورى: 5) إلى آخرها، لإبطال وهم المشركين أن شركاءهم يشفعون لهم؛ ولذلك جيء في هذه الجملة بصيغة القصر بضمير الفصل، أي أن غير الله لا يغفر.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك