رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 21 سبتمبر، 2020 0 تعليق

العلم وأثره في تزكية النفوس (1)


العلم نورٌ وضياء لصاحبه، وقد قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الشورى:52)، فالعلم نُور يضيء لصاحبه الطريق، وتَستبين لصاحبه به الجَادّة؛ فيكون في سيره على نورٍ من ربّه، فلا تلتبس عليه السّبيل، والله يقول: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الملك:22)، ويقول: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرعد/19)، ويقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر/9)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

     ولهذا كان التَوجيه لطلب العلم من أمارات الخير ودلائل الفلاح، ففي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، وفي حديث أبي الدرداء في المسند وغيره أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ؛ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». والأحاديث في فضل العلم وبيان شرفه وعلو مكانته ورفيع منزلة أهله كثيرةٌ جداً، معلومةٌ لدى طلاب العلم وعموم الناس.

القرب من العلم والجدية في تحصيله

     وكلَّما كان العبد قريباً من العلم، جاداً في تحصيله، مُبتغياً بذلك وجه ربّه -سبحانه وتعالى-، كان ذلك أمْكنَ له في تزكيتِه لنفسه ؛ لأنَّ النَّفس إنَّما تزكو بالعلم، ولا سبيل إلى تَزَكِّـيها إلا به، وقد قال الله -سبحانه وتعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} (الجمعة:2) أي أنّ التزكية التي تكون لهم إنّما تكون بتلاوة الآيات، ومعرفة وحي الله -جل وعلا- وتنزيله ودراسته ؛ فالوحي هو الذي به تتزكى النُّفوس، قال الله -تعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء:9)، وقال -تعالى-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء:82)، وقال -تعالى-: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (فصلت/44)، وقال -تعالى-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق:37)، وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} (الأنبياء:45)، وقال -تعالى-: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (ق:45)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

     وعندما يقف المسلم على موضوع التزكية وجوانبِ هذا الموضوع الفسيحَة المباركة في ضوء الآيات والأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنّه يقف على قواعد متينة وتأصيلاتٍ جامعة ومعالم بيِّنة تُضيء للمرء طريقه في عمله على تزكِية نفسه.

أعظم معْلمٍ وقاعدة

     وأعظم معْلمٍ وقاعدةٍ في هذا الباب العظيم المبارك: أنّ التزكية مِنّةٌ إلهية وهِبَةٌ ربانية ؛ فالله -عزّ و جل- هو الذي بيده الأمر، يزكِّي من يشاء، قال الله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (النساء:49)، وقال الله -تعالى-: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (النور:21)، وقال الله -تعالى-: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17)، ويقول الله -تعالى-: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات:7-8)، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- يقولون في رجَزِهم:

وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا

                                    وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

أي أنّ المِنّة في ذلك كله لله وحده؛ فهو المانُّ والمتفضل، وهو -جلّ وعلا- الهادي من يشاء إلى صِراط مستقيم {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر/8).

خطبة الحاجة

     وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يغرسُ هذا الأمر في نفوسِ الصحابة، ويؤكد عليه تأكيداً متكرراً، فكان يقول في خطبة الجمعة مُستهلاً لها بحمد الله: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» وهي تُعرف بخطبة الحاجة، جمعت قواعد الدين وثوابِت الشريعة وأُصول الشّرائع جـمعًا عجيباً، ولها تأثيرٌ بالغ فيمن يكرمه الله -سبحانه وتعالى- بفهم مضامينها ومعرفة دلالاتها.

خطبة الحاجة سبب في هداية قومٍ بأكملهم

     ولقد كانت هذه الخطبة سببًا بِمَنّ الله -سبحانه وتعالى- وفضله لهداية قومٍ بأكملهم لدين الإسلام في قصةٍ عجيبة خرّجها الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، وهي قصة إسلام ضماد الأزدي - رضي الله عنه -، وذلك أنّ ضماداً كان في جاهليته راقياً يشتغل برقية الناس ومن كان منهم مصاباً بمسٍّ أو جنون أو نحو ذلك، وكان مُشتهرا بالرّقية، يقول: قدِمتُ مكة فكـنتُ كلما مررت بطريق في مكة سمعت «إنّ محمداً مجنون»، فقلت: إنَّي رجل راقٍ، وإنَّ الله شَفى على يديَّ من شاء من عباده، لـئِن لقيت هذا الرجل لأرْقِينَه لعل الله يشفيه على يدي، يقول ثم إنَّـني لقيت محمداً - أي النبي صلى الله عليه وسلم  - فقلت له: إنَّـني رجل راقٍ وإنّ الله شفى على يدي من شاء فهل لك في ذلك؟ - تحب أنْ أرقيك؟، يخاطب بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب الدعاية الآثمة الكبيرة الواسعة التي تُحاك حوله - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله»، قال فقلت له: أعِـد عليّ كلامك هذا - أعجبه الكلام وأثّـر فِـيه - فأعاده النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ضمام فقلت له: لقد سمعتُ كلام السّحرة والكهنة وما هذا من كلامهم، وسمعتُ كلام المجانين وما هذا من كلامهم، سمعتُ كلام الشعراء ما هذا من كلامهم، ووالله إنّ كلامك هذا قد بلغ قاموس البحر - أعظم بحر، يعني كلمتك دخلت في الصميم - أعطني يدك أبايعك على الإسلام، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وعلى قومك؟» قال: وعلى قومي؛ لأنّه كان سيد قومه.

     فكانت هذه الخطبة سبباً لدخوله - رضي الله عنه - وقومه في هذا الدين العظيم المبارك؛ لأنها قائمة على ذِكر أصُولٍ عظيمة وقواعد متينة، من تدبّرها وأحسن تأملها نفعه الله -سبحانه وتعالى- بها نفعاً عظيما، ولها في موضوعنا هذا دلالاتٌ وهدايات في جوانب عديدة منها، جديرة بأن تُتأمل وتُـتَدبر، كقوله مثلا في هذه الخطبة: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا»، وقوله: «من يهده الله فلا مضل له»، وغيرها من ألفاظ هذه الخطبة العظيمة المباركة.

الهداية والتزكية مِنّةٌ إلهية

     والشّاهد أنّ الهداية والتزكية مِنّةٌ إلهية ؛ فالرّب العظيم هو الهادي وهو -سبحانه وتعالى- الّـذي يزكي من يشاء، وهو الموفق لا شريك له -جل وعلا- ؛ وبهذا يُعلم أنّ أعظم أصلٍ في هذا الباب (باب التزكية) أنّها مِنّة إلهية لا يُلجأ في طلبها إلّا إلى الله -سبحانه وتعالى- الذي بيده أزمّة الأمور ؛ فيُحْسِن العبد صلته بالله، ويُحسن إقباله على الله، ويَصْدق مع الله -سبحانه وتعالى-، ويُحسن في سؤال ربه -جل وعلا- وطلبه ؛ طالباً منه الهداية والصّلاح والزّكاء، والله -عز وجل- لا يُخَيِبُ عبداً دعاه، ولا يرُدّ مؤمناً ناداه وهو القائل -سبحانه-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة:186).

مكانة الدعاء

     ثم إنّ هذا يبين لنا مكانة الدعاء في هذا الباب العظيم وفي كل باب، وقد قال أحد السلف: «تأملتُ الخير فإذا هو أبوابٌ عديدة، وتأملت فإذا ذلك كله بيد الله -عزّ وجل- فعلمتُ أنّ الدعاء مفتاح كل خير»، ولهذا جدير بالعبد المؤمن أنْ يكثِر الدُّعاء والسُّؤال والطلب والمناجاة لله -سبحانه وتعالى- أنْ يهديه، وأنْ يصلح قلبه، وأنْ يزكِّي نفسه، وأنْ يثبِّته على صراطه المستقيم، وأنْ يعيذه من سبيل الزّيغ، وألا يكِله إلى نفسه طرفة عين، إلى غير ذلكم من الدعوات المأثورة عن نبينا -عليه الصلاة و السلام.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك