العلم وأثره في تزكية النفوس – تزكية النفس في ضوء القرآن والسنة (4)
تزكية النُّـفوس - كما يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (مدارج السالكين) - أمرُها مُسلَّمٌ إلى الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وإنّما بعثهم الله بهذه التزكية وولاهم إيّاها، وجعلها على أيديهم دعوةً وتعليماً وبياناً وإرشاداً لا خَلْقاً ولا إلهاماً، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم. قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة:2)، وقال -تعالى-: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}(البقرة:151).
ميزان دقيق
يقول سفيان ابن عيينه -رحمه الله-: «إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الميزان الأكبر وعليه تُعرض الأشياء على خُلُقه وسيرته وهدْيه، فما وافقها هو الحق، وما خالفها هو الباطل»، هذا - أيّها الإخوة - ميزان دقيق ومهمٌّ للغاية في باب تزكية النّفس، تزكية النَّـفس ليس أمراً مُسلّما للإنسان يزكي نفسه بأي طريقة شاء وبأي سبيل أراد، لا؛ بل لابد في باب تزكية النّفس من وزنِ الأعمال بما جاء عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، فَخلُقه وسيرته وهديه - صلى الله عليه وسلم - مِيزان تُعرض عليه الأعمال وتُقاس عليه الأمور، وليس للإنسان أنْ يتخِذَ لنفسه ما شاء من الأمور أو الوسائل التي يزعُم أنّها تُـزكي نفسه، ولهذا يقول ابن القيم -رحمه الله-: «تزكية النُّفوس أصعب من علاج الأبدان وأشـد، فمن زكّي نفسه بالرياضة والمجاهدة والخَلوة التي لم يجئ بها الرسل - يعني جاء بأعمال وطرق يزعم أنّها تزكي النّـفس لكن لم تأتِ عن الرسل عليهم الصلاة والسلام - هو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب ؟ فالرّسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلّا من طريقهم وعلى أيديهم وبمحض الانقياد والتسليم لهم والله المستعان».
لا إفراط ولا تفريط
بعض النَّاس يظن في هذا الباب أنَّ التزكية تكون بالتّشديد على النَّفس والقسوة عليها وحرمان النَّفس من حقُـوقها التي فطر الله -سبحانه وتعالى- النّفوس على الاحتياج إليها، قد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ»، فبعض النَّاس يظن أنَّ تزكيته لنفسه تكون بحرمان النَّفس من حقوقها المباحة، أو بالقسوة على النَّفس والشّدة عليها، أو بالرّعونة ونحو ذلك من التّصرُفات التي يظن أنّه بمثل هذه المسالك يزكّي نفسه، وهيهات أن تكون تزكية النَّـفس بمثل ذلك؛ فتزكية النَّفس لا تكون بالإفراط ولا بالتفريط، ولا تكون بالزيادة ولا بالتقصير، بل تكون بالتّـوسط والاعتدال وذلك بلزوم هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهجِه القويم - صلى الله عليه وسلم .
فلا بُـد من الوسطية والاعتدال في باب تزكية النَّـفس، لأن تزكية النَّـفس مطلوبٌ للجميع، لكن تتفاوت في المسالك: فمن النّـاس من يريد أن يزكي نفسه بالتّشديد والتعسير والقسوة على النّفس وفي الحديث: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا»، ومن النّاس من يزكّي نفسه بوسائل وطرائق لا أصل لها ولا أساس، فالنّاس في هذا الباب بين إفراطٍ وتفريط، وخِيارُ الأمور أوساطُها؛ لا تفريطها ولا إفراطها.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: «فإنَّ النّفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخُلُقين الذميمين ولابُد؛ فإذا انحرفت عن خلق التواضع: انحرفت إما إلى كِبر وعلو، وإما إلى ذلّ ومهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خُلق الحياء انحرفت إمّا إلى قِحَةٍ وجُرأة، وإمّا إلى عجـزٍ وخور ومهانة. وكذلك إذا انحرفت عن خُلق الصبر المحمود انحرفت إمّا إلى جزعٍ وهلع، وإمّا إلى غلظة كبد وقسوة قلب وتحجّـر طبع. وإذا انحرفت عن خُلق الحلم انحرفت إمّا إلى طيش أو إلى مهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خُلق الأناة والرفق انحرفت إمّا إلى عجلة وطيش وعنف، أو إلى تفريطٍ وإضاعة. وإذا انحرفت عن خُلق العزة التي وهبها الله لأهل الإيمان انحرفت إمّا إلى كِبرٍ وإمّا إلى ذُل. وإذا انحرفت عن خلق الشّجاعة انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود أو إلى جُبن وتأخُّر مذموم «؛ وهكذا نجد أنَّ النّفس إذا خرجت في باب التزكية عن حدّ الاعتدال والتّـوسط الذي كان عليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - تنحرف إلى جانبين كلاهما مذموم، وخِيار الأمور أوساطها؛ لا تفريطها ولا إفراطها.
الحنيفية السمحة
ويجب أنْ يُعلم في هذا الباب: أنَّ خير العمل ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين وقد يكون أشدهُما، فليس كل شديد فاضلاً، ولا كل يسير مفضولاً، بل الشرع إذا أمَرَنا بأمر شديد فإننا نأمر به بما فيه من المنفعة لا لمجرد تعذيب النّفس، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ««إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»، وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».
والشيطان له مداخل في هذا الباب؛ عندما يرى الإنسان قد أقـبل على تزكية النّـفس إمّا أنْ يُدخله في باب تشديدٍ وتعسيرٍ على النَّفس بترك المباحات وتعذيب النفس بقلة المطعم، لبس البدن، المنع من المباحات، أو ينقل الإنسان نقلةً أخرى بعيداً يحرفه من خلالها عن الصواب والسداد. والواجب على المسلم في هذا الباب (باب تزكية النّفس) وفي كل بابٍ أنْ يُلزم نفسه بشرع الله ودينه الثّابت عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأنْ يحذر من كلِ طريقٍ وسبيل لا أصل له في شرع الله -عز وجل.
الذكر الدائم
يَحتاج العبد في هذا المقام (مقامِ تزكية النّـفس) إلى أمرٍ مهم للغاية لابد من التأكيد عليه وهو: أنْ يكون على ذكرٍ دائم للوقوف بين يدي الله والمجازاة والمحاسبة، قد قال الله -عـزّ وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر:18)، وقال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} (التحريم:6)، ومن أواخر ما نزل على نبينا - صلى الله عليه وسلم - قول الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} (البقرة:281)، وفي الحديث وفي سنده مقال ولكن معناه صحيح لا ريب في صحة معناه: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني». الكيّس: أي اللّبيب الفطِن الذي يحاسب نفسه ويُعِـدّها لما بعد الموت، يُعدُّها للقاء الله -سبحانه وتعالى-، والعاجز من أتْبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
الهداية منة من الله
- ثُمّ أمرٌ أخير أختم به ألا وهو: ينبغي على من أكرمَه الله -عزّ وجل- بالاستقامة ووفَّقه للرّعاية لنفسه والعناية بها أن يذكُر دائماً أن هذا محضُ فضل الله عليه ومَـنِّه -سبحانه وتعالى-، وأنّه لولا فضل الله عليه لما استقام ولَمَا اهتدى؛ فيحذر في هذا المقام من أن ينظر إلى نفسه نظر الإعجاب أو الثناء على نفسه أو التزكّية لها، والله يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم:32)، ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (النساء:49)، فإذا أكرم الله -سبحانه وتعالى- عبده ووفقه لسلوكِ طريق الهِداية ولزوم سبيل الاستقامة فعليه أنْ يذكر أنَّ هذا محضُ فضل الله ومنّه عليه؛ فلا ينظر إلى نفسه نظر إعجاب بل يكونُ حامداً شاكراً مُثنياً على مولاه -سبحانه وتعالى-، وقد ذكر الله -جل وعلا- في صفات المؤمنين الكُمَّل فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون:60) أي: يقدِّمون ما يقدِّمون من طاعات وعبادات وقلوبهم خائفة، قد جاء في المسند أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن معنى هذه الآية الكريمة وقالت: «يا رسول الله، أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ قَالَ لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي وَهُوَ يَخَافُ أَلَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ»، ولهذا قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: «إنَّ المؤمن جمَع بين إحسانٍ ومَخافة، والمنافق جَمع بين إساءةٍ وأمْن»، المؤمن يحسِن في العمل ويخاف، والمنافق يسيء في العمل وآمِن».
فالواجب على المسلم أنْ يُجاهد نفسه على تقوى الله -سبحانه وتعالى- ونيل رضاه، وأنْ ينظر إلى نفسه دائماً نظـر التقصير والتفريط، ويلُـوم نفسه على تقصيرها وتفريطها، ويجاهد نفسه على البعد عن الذّنوب والآثام التي تحرِمه من الخير وتحُـول بينه وبين نيل الفضائل والخيرات والبركات في الدنيا والآخرة، ويكُون مُقبلاً على ربّهِ -سبحانه- يرجو رحمته ويخاف عذابه {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء:57).
لاتوجد تعليقات