العلم نقطة انطلاقنا نحو الفلاح في الدنيا والآخرة
من المتقرر عند المسلمين أهمية العلم وفضله، فأول ما نزل من الوحي كان الأمر بالقراءة، والقراءة لا تكون إلاّ بالعلم والتعلم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وسيرته رسخ مكانة العلم، وذلك بحَثّه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه والناس من بعدهم على التعلم فقال: «من سلك طريقًا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة» رواه أبو داود وصحّحه الألباني، وأقام - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا من سياساته على تعظيم أمر العلم؛ فأمر زيد بن حارثة بتعلم السريانية ليتقي غدر اليهود، وأطلق بعضَ أسرى قريش شريطة تعليم أطفال المسلمين، واستفاد من عِلم فارس التقني بحفر الخندق يوم الأحزاب.
الاعتماد على أهل الاختصاص
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتمد على أهل الاختصاص العلمي؛ فيأمر حسان بن ثابت بالاستعانة بأبي بكر الصديق لكونه عالما بأنساب قريش قبل أن يهجوها، ويخصص عددا من الصحابة لكتابة الوحي، ويعلن اختصاصات الصحابة العلمية: «أقضاهم علي، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبيّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» رواه أبو يعلى وصححه الألباني.
الخلفاء الراشدون
وعلى هذا المنوال سار الخلفاء الراشدون؛ فبعثوا المعلمين للأمصار، وجمعوا المصحف ثم نسخوه وبثوه في الأقطار، وتفاعلوا مع علوم الأمم الأخرى، فقبلوا استخدام الدواوين أولاً بغير العربية ثم عُرّبت لاحقا، ورعوا حركة التعليم حتى ظهرت المدارس لاحقا، وهكذا.
تواصل المسيرة
وبعد عصر الراشدين تواصلت المسيرة العلمية حتى أصبح المسلمون سادة العلم والتعليم؛ فدانت لحكمهم البشرية قرونا طويلة، ولما ضعفت حركة العلم والتعليم، دخلت عليهم الآفات، فانتشر الجهل، وزالت القوة، وانحلت عرى الوحدة، فهجم على دولهم الأعداء، واحتُل كثيرٌ منها؛ فزاد الجهل والفقر، وضربت البدعة والخرافة في أطناب دول الإسلام.
كان هذا هو الحال حتى أتت -قبل عقود- مرحلة شهدت تحررا ظاهريًا من قبضة الاستعمار، وعَرفت نهضة عمرانية واقتصادية بسبب طفرة النفط التي رافقها صحوة إسلامية، عمت كثيرا من الناس بعد موجات التجهيل التي ساقها إليها أعداء الأمة.
أمية الوعي والفهم
واليوم نحن على أعتاب مرحلة جديدة، تقلصت فيها أمية القراءة، ولكن تتفاقم فيها أمية الوعي والفهم، وتنتشر فيها أدوات الثقافة ووسائط الاتصال والتواصل، لكن ينتشر فيها الانشغال بتوافه الأمور! مما يظهر من جديد أهمية التركيز على تثوير مفهوم العلم والمعرفة، وجعله نقطة الانطلاق للفلاح في الدين والدنيا، فبغياب العلم أو انحرافه تعرض الإسلام والمسلمون لأزمات كثيرة في هذا العصر.
الغلو والتكفير
فانتشار فكر الغلو والتكفير نتاج الجهل بالشريعة من جهة، والجهل بمآلات الغلو والتطرف، وهو أيضا نتيجة للانحراف في فهم نصوص الوحي.
نقص العلم
كما أنَّ نقص العلم كان سببًا للفشل في تأسيس بنية تحتية صناعية دائمة، وتلافي آفات الترف والاقتصاد الاستهلاكي، وكذلك الخلل المعرفي بالإدارة السليمة كان سببًا في عدم القدرة على بناء منظومة تعليم ناجحة، وسببا في غياب الجامعات العربية عن قوائم الجامعات المرموقة عالميا برغم الميزانيات الضخمة.
معيار العلم والكفاءة
وبسبب استبعاد معيار العلم والكفاءة في تولية المناصب، نعيش في دوامة من الفوضى والخطط البائسة التي تنعكس على واقع الناس: إخفاقات وأزمات ومشكلات متجددة.
ضبط مركزية دور العلم
إنّ ضبط مركزية دور العلم في تصحيح المسار نقطة الانطلاق الحقيقية للفلاح في الدين والدنيا والآخرة، وحين نتكلم عن العلم، فإننا نقصد العلم بعمومه (العلم الشرعي والعلم الدنيوي)، وقد ألّف الشيخ عبد الرحمن السعدي كتابًا بعنوان (الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي)؛ ليقرر فيه بوضوح «أن العلوم الكونية والفنون العصرية النافعة داخلة ضمن علوم الدين وأعماله وليست منافية لها»، وذلك ردًا على خرافات بعض الطوائف أو جهل بعض المتعصبة ضد المخترعات الحديثة والعلوم الجديدة، وهي قضية عانت منها أمتنا قبل عقود؛ بسبب الضعف العلمي وانتشار الجهل.
الفهم الشامل للعلم
وهذا الفهم الشامل للعلم ودوره هو الذي أدركه المصلحون؛ فانطلقوا منه في مشاريعهم الإصلاحية الكبرى، ومن الأمثلة العصرية لهذا الفهم الواسع لدور العلم الكلمة العظيمة لعلامة الجزائر العلامة عبد الحميد بن باديس، حين بيّن منهجه في تحرير الجزائر، فقال: «أنا أحارب الاستعمار بالعلم؛ لأني أعلّم وأهذّب، فمتى انتشر التعليم والتهذيب في أرضٍ، أجدبت على الاستعمار، وشعر في النهاية بسوء المصير».
ترسيخ مفهوم العلم الشامل
واليوم نحن بحاجة من جديد لإعادة ترسيخ مفهوم العلم الشامل في واقعنا )أفرادا وجماعات ومؤسسات ودولا) حتى نحوز الفلاح، وهذا لا يكون إلا بضبط منهجية العلم وأصول المعرفة أولاً، والشمولية والتكامل بين العلوم ثانيًا، وتأسيس التفكير العلمي والموضوعي ثالثًا، والعمل بالعلم وعدم الاكتفاء بالشعارات.
لاتوجد تعليقات