العلم صيانة للأمة والجهل سبيل للفوضى
عظم الله أمر العلم وأعلى مرتبته، قال -تعالى-: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما ذكره ابن جماعة في (تذكرة السامع والمتكلم) «العلماء فوق المؤمنين مائة درجة ما بين الدرجتين مائة عام»، وقال -عز وجل-: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط}، فبدأ -سبحانه- بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بأهل العلم، وكفاهم ذلك شرفا وفضلا وجلالة ونبلا، وقال -تعالى-: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، ولم يطلب -سبحانه- من نبيه الاستزادة من شيء إلا من العلم؛ فقال -عز وجل-: {وقل رب زدني علما}، قال ابن كثير في تفسيره: «وهذه الآية برهان واضح على فضل العلم؛ لأن الله -تعالى- لم يأمر نبيه بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف».
شرف العلم
وشرف العلم عظيم لايخفى على أحد من البشر؛ فالناس مشتركون في كثير من الخصال إلا العلم يختص به -سبحانه- من يشاء من عباده، وبه أظهر الله فضل آدم على الملائكة، وأمرهم بالسجود له كما قال -تعالى-: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}، العلم في النصوص السابقة هو العلم الشرعي وهو علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى؛ فالعلم الذي فيه الثناء والمدح هو علم الوحي، علم ما أنزل الله -تعالى- فقط، كما روى البخاري في صحيحه من حديث معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين». وثبت في سنن أبي داود من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر»، ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم الشريعة وليس غيره من العلوم؛ فالأنبياء ما ورثوا للناس علم الصناعات وما يتعلق بها إنما ورثوا العلم الشرعي، وليس معنى هذا عدم فائدة العلوم الأخرى الطبية والصناعية ونحوها، بل هي علوم مهمة وفرض كفاية على الأمة، لكن المقصود هنا حاجة الأمة إلى العلم الشرعي وخطورة الجهل وانتشاره فيها.
فضل العلم
إن للعلم الذي يحمله العلماء فضائل عظيمة منها:
أنه ميراث الأنبياء والرسل كما في حديث أبي الدرداء السابق.
أنه يبقى والمال يفنى، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
أن صاحبه لا ينصب في حراسته ولا يتعب؛ لأنه إذا رزق الله عبده علما فمحله القلب؛ فلا يحتاج إلى صناديق أو مفاتيح؛ فهو في القلب مغروس وفي النفس محروس، بل هو نفسه يحرس صاحبه ويحفظه، بعكس المال أنت تحرسه ومع ذلك أنت غير مطمئن عليه.
إن العلماء هم أحد صنفي ولاة الأمور الذي أمرنا الله بطاعتهم في قوله -عز وجل-: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يعني أهل الفقه والدين، وقال ابن كثير في تفسيره (1/519): إنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء.
إن طريق العلم الشرعي طريق إلى الجنة كما صح في صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة».
أن الله إذا أراد بعبد خيراً وفقه وفقهه في دينه، كما صح في صحيح البخاري من حديث معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين». أي يجعله فقيها في دين الله -عز وجل- عالما بالتوحيد وأصول الدين وما يتعلق بشريعة الله من أحكام.
إن العلم نور يهتدي به العبد فيعرف كيف يعبد ربه؟ وكيف يعامل عباده؟ فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.
ومنها، أن الملائكة وغيرها من المخلوقات لتستغفر للعالم وتدعو له كما صح في سنن أبي داود من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب». وثبت عند الطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير».
أقوال السلف
هذه هي فضائل العلم والعلماء، علماء الشريعة، العلماء بكتاب الله -تعالى- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من نصوص الكتاب والسنة، أما أقوال السلف فكثيرة نذكر بعضها: قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : «تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وبذله قربة وتعليمه من لا يعلمه صدقة». وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: «مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة»، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : «باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا»، وقال الزهري -رحمه الله-: «ما عُبد الله بمثل الفقه».
وقال أبو الأسود الدؤلي -رحمه الله-: «ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك»، وقال أبو مسلم الخولاني -رحمه الله-: العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا بها، وإذا خفيت عليهم تحيروا». وقيل: «خير المواهب العقل، وشر المصائب الجهل»، (نقل هذه الآثار ابن جماعة في كتابه تذكرة السامع والمتكلم – 34 – 37).
آفة الجهل
هذا هو العلم، وهناك آفة خطيرة أُبتليت بها الأمة، ألا وهي الجهل، هذا الذي أهلك كثيراً من الناس وأوقعهم في المهالك والمهاوي، وقادهم إلى المشكلات والمصائب والمعضلات، وإلى التشدد والتنطع، وإلى رؤية الحق باطلاً والباطل حقاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، فقادوا الناس إلى الضلال، نسأل الله السلامة والعافية.
من العلماء؟
نحن اليوم بحاجة ماسة إلى العلماء، ولكن من العلماء؟ ليس المقصود بالعلماء كل من تكلم بالعلم، فالجميع يتكلم بالعلم صغيرا كان أم كبيرا، ولكننا نقصد العلماء الربانيين الذين أفنوا أعمارهم وأوقاتهم في سبيل الله؛ ولذلك ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- أن من علامات الساعة أن يؤخذ العلم عن الأصاغر ويترك الأكابر؛ فنجد اليوم من الصغار ممن لم يتمرسوا ويجتهدوا ويثابروا في طلب العلم الشرعي، بل درسوا علوما أخرى ولم يجلسوا عند العلماء ويأخذوا العلم على أيديهم، تجدهم يتصدرون للفتوى ويصدرون فتاوى تهم الأمة بأسرها، يفتون بجهل عظيم، وفهم سقيم، ويؤصلون أصولا فاسدة، ومبادئ منحرفة مستدلين ببعض النصوص التي لا يفقهها حق الفهم إلا أهل العلم والفقه، ولكن ماذا نقول؟ لقد غلبت على الناس العاطفة فقادتهم إلى اتباع الجهلة وترك العلماء، وهذا قد ذكره نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما في حديث الصحيحين: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤُوسا جُهالا فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
مقارنة بين العلم والجهل
أخي القارئ الكريم، هذه مقارنة بين العلم والجهل. العلم نور يستضيء به الناس ويهتدون به، والجهل ظلمة يجر الناس إلى الهلاك.
العلم يدعو إلى الحكمة والتأني، والجهل يدعو إلى العجلة والاستعجال، قال صلى الله عليه وسلم : «التأني من الله والعجلة من الشيطان». أخرجه البيهقي في شعب الإيمان.
العلم يدعو إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم من القرون المفضلة، والجهل يدعو إلى العاطفة والحماسة غير المتزنة، وإلى نصوص شرعية بلا فقه ولا فهم صحيح.
العلم يدعو إلى العدل في كل شيء، والجهل يدعو إلى الظلم والاعتداء، قال -تعالى-: {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 8).
العلم ينظر إلى عواقب الأمور ونتائجها وما يتوقع من المفاسد وراءها، والجهل لا ينظر إلا إلى واقع الحال دون النظر في العواقب.
العلم يدعو إلى إنكار المنكر بشروط وضوابط، والجهل يدعو إلى إنكار المنكر حتى ولو أدى هذا الإنكار إلى مفاسد عظيمة وعواقب وخيمة تهدد كيان الأمة.
العلم يدعو إلى احترام العلماء وتوقيرهم وعدم استثارة الناس على حكامهم، والجهل يدعو إلى الطعن في العلماء ونعتهم بالعمالة والخوف والجبن، واستثارة الناس وإشاعة الفوضى في المجتمع.
هذا هو العلم وهذا هو الجهل؛ فماذا تختار أيها العاقل اللبيب؟! فلنتق الله في أنفسنا ولنعلم أن ما يجري في واقع الأمة اليوم من فوضى وقتل واعتداء وانقلابات ومظاهرات وتفجير وغيرها كثير، هذا كله منشأه الجهل بدين الله -عز وجل- ومنبعه العاطفة غير المتزنة والحماسة غير المنضبطة دون رجوع إلى العلم وأهل العلم، هذا هو الحق -إن شاء الله تعالى- وليس جبنا ولا خوفا ولا عمالة ولا إرضاء للحكام ولا خوفا منهم، ولكنه دين الله -عز وجل- الذي ينبغي أن يقال ويعمل به والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لاتوجد تعليقات