العقول الإسلامية في الخارج .. مهاجرة أم هاربة؟!
إنه ملف قديم متجدد نظراً لاستمرار استفحاله يوماً بعد يوم، إنه ملف هجرة العقول الإسلامية إلى دول التقدم العلمي والصناعي، وقد وصل بعضهم في وصفه بأنه هروب وليس هجرة.
ودون الخوض في الأسباب التي باتت معروفة للجميع من إهمال أنظمتنا الحاكمة للعلم والعلماء، فينبغي أن نتطرق للحلول مباشرة أرى أنها لا تكون إلا بحل سياسي من ذوي الأمر وصناع القرار.
وأرى أنه يتمثل في التفكير في تأسيس جيل من العلماء من أبناء الأمة باكتشاف النوابغ منهم ورعايتهم منذ مرحلة مبكرة بتوفير المناخ العلمي المطلوب والإمكانيات، والإنفاق اللازم على الأبحاث العلمية بما يضمن بقاء هذه العقول في أوطانها والاستفادة منها وتأثيرها في مجريات الحياة.
ولكي يتم ذلك فإننا نناشد الحكام وأجهزتهم أن يهتموا ولو بربع اهتمامهم بفئات نسأل أنفسنا في كل لحظة عن الفائدة التي حققوها للمجتمع والعائد الذي انعكس على أفراده وهم فئات الرياضيين والممثلين والراقصات وأبطال (الكليبات) الهابطة، الذين أصبحوا في يوم وليلة قدوة مجتمعاتنا العربية الإسلامية في وقت تنقل فيه الصراعات على المصالح السياسية والاقتصادية والعلمية على الهواء مباشرة أمام أعين العالم في كل مكان.
ولعلي أذكر هنا أنه في دولة كبيرة بحجم مصر لم تدرج جامعاتها ضمن أفضل 500 جامعة على مستوى العالم.
ولعلنا أيضاً نذكر نماذج عربية وإسلامية من عقول تميزن فنبغت في مجالاتها واستقرت في غير أوطانها لتخدم الأجانب وتؤثر بعلمها ونبوغها في مسار اقتصادات هذه الدول بفضل ما وصلوا إليه من علم واكتشافات ومنهم مثلاً: فاروق الباز، أحمد زويل، مجدي يعقوب، مصطفى السيد.
إن الهجرة غير الشرعية التي تؤرق بال دولنا في الوقت الحاضر أمر يوجب علينا التصدي لنوع من هجرة شرعية تتمثل في هروب نوابغ الأمة الإسلامية لبلاد الغرب بلا عودة، وهو ما يدعو لضرورة وضع خطة لضمان عودة هذه العقول والبدء في وضع قواعد وشروط لعودة هذه العقول في المستقبل بعد الانتهاء من مهمتها العلمية على أن يلقوا الرعاية ويحصلوا على المميزات نفسها.
إن الأرقام والإحصائيات التي يتضمنها التحقيق التالي تكشف عن أوضاع خطيرة تبكي لها القلوب، وربما تبكي تحسراً على المكانة التي وصلنا إليها بين دول العالم بعد أن كنا رواده في فترة من الفترات.
الانتماء والدبلجة
في بداية هذا التحقيق يتحدث أ.د / أحمد فؤاد باشا – أستاذ الفيزياء بجامعة القاهرة طبقاً لرؤيته عن الموضوع من وجهة نظر إيجابية فيقول: أرى الإشكالية من منظور إيجابي بمعنى أن مفهوم الغربة والاغتراب والبعد اختلف عنه في الماضي؛ حيث إن الثورة العلمية وثورة الاتصالات تحولت إلى ميزة لخدمة العالم الإسلامي رغم تقاعسنا وتخلفنا، وفي ظل تمسكنا بتعاليم الإسلام الحقيقي تصبح هذه العقول هي رسل الأمة فتستفيد الأمة ويتحقق نفعها، ولكن لو عاد العالم من هؤلاء سيعيش في الفقر والتخلف، أما وجودهم في الخارج فسيجعلهم حلقة وصل بيننا .. أما البعد فأرى أن ثماره السلبية تنحصر في قتل الانتماء لدى بعض من هؤلاء العلماء وهنا أعول على الوطن نفسه بأجهزته ومؤسساته التي يجب عليها أن تغرس الانتماء في نفوس أبنائه وتنميته، وللإعلام ووسائله دور كبير في هذا بدلاً مما رأيناه في شهر رمضان الذي انقضى مؤخراً من ملذات الهوى وضياع الوقت بلا فائدة، فلو اهتمت الدول بتوثيق روابط أبنائها بالوطن والعقيدة فسيكون خيرهم لوطنهم وعقيدتهم.
ويواصل باشا حديثه قائلاً: وللأسف فإن الغرب ينجح في غرس الانتماء والولاء له من قبل أبناء الأمة الإسلامية وعقولها منذ أول لحظة لوصوله، وذلك بتوفير متطلباته وتلبيتها من مسكن وزواج ودخل وجنسية وإقامة، وكذلك توفير المناخ العلمي المتميز والإمكانات اللازمة، وكل هذا قبل أن يبدأ مشوار العلم، وبذلك يكونون قد نجحوا في غرس الانتماء وحب الوطن الذي يقيم فيه أي عقل مهاجر، وهنا هم على ثقة أنه لو خير بين وطنه الأم ووطنه الثاني الذي ساعده في نبوغه، سيختار وطنه الثاني، لأن ذلك يتم في سن مبكرة لهذه العقول وسيشعرون بالفخر والانتماء لهذه الدولة وهذه العملية يطلق عليها باشا عملية (الدبلجة) فيصير أمريكياً أو فرنسياً أو روسياً ... إلخ.
في ذيل القائمة
من جانبه يتحدث أ.د. / سعد السيد – أستاذ الكيمياء بعلوم عين شمس، فيقول: هجرة العقول تؤثر سلباً على خيرات أوطانها بعد خبرات تكونت وترعرعت في بلدها واستفادت من أوطانها وراحت تخدم في بلاد أخرى، ولكن في الوقت نفسه فإن في دول المهجر ما يدعو للبقاء، فالمناخ والبيئة هناك ترعى العلم والعلماء.
وينبه د. سعد السيد – إلى أن النجاح هو محاولة الاستفادة من علمائها المهاجرين كإشراكهم في المشروعات الوطنية والاستفادة من خبراتهم وعلمهم كل في مجاله وعن أوضاع العالم الإسلامي ومكانته من العلم وتطبيقاته الحديثة ويقول د. / سعد السيد: ما زلنا متأخرين جداً ولكن هناك دول إسلامية مثل تركيا وإيران وماليزيا قفزت قفزة رائعة في العلم، واستطاعت هذه الدول أن تتحول من دول مستوردة للتكنولوجيا إلى دول مصدرة لها، أما الدول العربية فهي في ذيل التقدم العلمي.
ففي بلد مثل مصر بها 70 ألف عالم ولكن إنتاجهم ضعيف وقدرتهم على تصدير تكنولوجيا جديدة لا تذكر.
ويشير د. / السيد – إلى بعض الأرقام فيقول: إن: دولة العدو الصهيوني تخصص 3% من إجمالي الناتج القومي للبحث العلمي، بينما مصر لا تخصص أكثر من 1.، % وبدأت دولة عربية مثل قطر بتخصيص 2.8% من دخلها القومي.
خطة استراتيجية
أ.د. / محيي الدين عبد الحليم – أستاذ الصحافة والإعلام بجامعة الأزهر فيرى أن العقول العادية التي لا تؤثر في المجتمع هي عقول مهملة ولا توجب على أحد الاهتمام بها، ولكن هناك عقول تبني المجتمع وهي عقول العلماء والنابغين، فمثلاً أمريكا بها 8 ملايين مسلم، منهم العديد من العلماء الذين يفيدون أمريكا ولا يعودون بأي نفع على أوطانهم وهي ظاهرة خطيرة يجب الوقوف عندها والبحث عن حل لها، فتحدد دولنا من يسافر ومن لا يسافر وأن توضع قيود وشروط لهذا السفر والبقاء خارج الوطن، فهذه العقول أسهمت في بناء المجتمعات الأجنبية، وحان الوقت لرد الجميل والواجب لأوطانها؛ ولذلك فمن الضروري وضع استراتيجية للتعامل مع ظاهرة العقول المهاجرة.
وأما أ.د. / إلهام محمد شاهين – أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، فتقول: الكفاءات والعقول النابغة في عالمنا الإسلامي لا تجد من يحتضنها أو يساعدها على إثبات كفاءتها، بل هناك من يحاول عدم إثبات قدرتها أو التقليل من شأنها نظراً للمحسوبية أو لمجرد الغيرة، وهذا الحال متفشٍ أيضاً في كل بلادنا العربية رغم ان هناك دولا عربية تهتم بالعلم ولكنها قلة، فالغيرة هي العامل المسيطر.
ثانياً: ضعف الاهتمام بالبحث العلمي وهذا مخالف تماماً لأوامر الله عز وجل؛ حيث أمرنا بالاهتمام بالعلم والعلماء فيقول – جل شأنه – {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ولذلك فلا يستوي العالم والجاهل، ولا يستوي كذلك الذي يعمل بجد واجتهاد مع المتكاسل، وينبغي أن يكون هذا منهجنا ولكن هذه مخالفة صريحة، فالبحث العلمي لا يجد أدنى اهتمام في البلدان العربية، فضلاً عن ضعف الموارد المالية للعلماء الذي يجعلهم يلهثون وراء لقمة العيش وتوفير احتياجاتهم الخاصة وأسرهم منشغلين بها عن العلم الذي من المفترض أن يتفرغوا له لينهض به مستوى أمتهم، كما أنه ليس هناك إعطاء لكل ذي حق حقه، فكل من يثبت كفاءة يلزم أن نمد له يد العون من مؤسسته ومن المجتمع بأسره.
الفن والرياضة أهم
وتنكأ د. / إلهام شاهين الجراح حين تقول: ليس هناك احترام للعلم والعلماء أو الاهتمام بهم في وسائل الإعلام وعدم تقديمهم بوصفهم نموذج وقدوة تحظى بالاهتمام الإعلامي لتقديمها للشباب في مقابل الاهتمام بأهل الفن والرياضة، ولذلك تجد أن الأجيال الشابة تجد الاهتمام باللهث وراء الفن والرياضة والإحجام عن العلم والبحث العلمي، كما أن الشخصيات التي تحظى بالاهتمام ليست هي بالعقول المفكرة، وإنما بذوي المناصب والكراسي وأصحاب النفوذ، وهؤلاء يتم تمجيدهم وإعطاؤهم من الخطوة والنفاق ما يجعل منهم نوابغ وعقولا فذة ويتم تمجيد أفكارهم وتنفيذ مقترحاتهم حتى لو أدت إلى خسائر جسيمة وإلى إهدار المال العام.
هجرة أم هروب؟!
وتأسيساً على ما سبق من أسباب الهجرة، وبقاء العقول الإسلامية في بلاد المهجر من علماء وأطباء ومهندسين، وأننا أمام ظاهرة مستمرة، فيرى بعضهم أنها تحولت من هجرة إلى هروب للعقول الإسلامية إلى دول العلم والصناعة، فتشير إحدى الدراسات إلى أن هناك أكثر من مليون طالب عربي يستكملون دراستهم بالخارج ولاسيما حاملي الدكتوراة لا يعودون إلى بلادهم لعوامل كثيرة منها ندرة الفرص وانخفاض الأجور وعدم العدالة بسبب وجود المحسوبية والمجاملات وضعف الإنفاق على البحث العلمي.
حديث الأرقام
وطبقاً لبعض الدراسات والتقارير المتعلقة بهجرة العقول والكفاءات من العالمين العربي والإسلامي نجد أن هناك حوالي 45 % من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم.. وأن 34 % من الأطباء النابغين في بريطانيا من العرب.. ودراسة أخرى توضح أن مصر خسرت خلال السنوات الأخيرة 450 ألف شاب من حملة الماجستير والدكتوراة.. وأن العالم العربي خسر حوالي 200مليار دولار، خلال عام (2001م) بسبب هجرة الكفاءات العلمية والعقول العربية للدول الغربية .
وبالرجوع إلى تقارير كل من جامعة الدول العربية ومؤسسة العمل العربية والأمم المتحدة (عبر تقارير التنمية البشرية العربية)، نراها تؤكد على أن دول العالم العربي أصبحت طاردة للكفاءات العلمية، وتشكل هجرة الكفاءات العربية 31 % مما يصيب الدول النامية، كما أن هناك أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنيين المهرة مهاجرون ويعملون في الدول المتقدمة، بحيث تضم أمريكا وأوروبا 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقرير مؤسسة العمل العربية.
وتؤكد هذه التقارير أن 5.4 % فقط من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج يعودون إلى بلادهم فيما يستقر الآخرون هناك.
وأظهر تقرير حديث للجامعة العربية أن الدول العربية تنفق دولاراً واحداً على الفرد في مجال البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن، والدول الأوروبية حوالي 600 دولار، وأن كل مليون عربي يقابلهم 318 باحثاً علمياً، بينما النسبة تصل في العالم الغربي إلى 4500 باحث لكل مليون شخص.
ومن الإحصائيات المهمة أيضا أن 34 % من الأطباء الأكفاء في بريطانيا ينتمون إلى الجاليات العربية، وأن مصر وحدها قدمت في السنوات الأخيرة 60 % من العلماء العرب والمهندسين إلى الولايات المتحدة، فيما كانت مساهمة كل من العراق ولبنان 15%. وشهد العراق ما بين 1991 و1998 هجرة 7350 عالماً تركوا بلادهم بسبب الأحوال السياسية والأمنية ونتيجة الحصار الدولي الذي كان مفروضاً على العراق آنذاك. وتشير هذه التقارير إلى عمل قسم واسع من العقول العربية في اختصاصات حساسة في بلاد الغرب: مثل الجراحات الدقيقة، الطب النووي، الهندسة الإلكترونية والميكروإلكترونية، والهندسة النووية وعلوم الليزر، وعلوم الفضاء وغيرها من الاختصاصات عالية التقنية.
أما كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة فقد بينت دراسة لها أن هناك 4102 عالم إسلامي في مختلف علوم المعرفة في مؤسسات ومراكز أبحاث غربية.
ويؤكد تقرير أمريكي أن الأطباء والجراحين القادمين من الدول النامية خلال النصف الأول من السبعينيات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يمثلون 50%، والمهندسين 26%، وأن ثلاثاً من دول الشمال هي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، تستأثر بـ 75% من جملة التدفق في الكفاءات المهاجرة.
جدير بالذكر أن عددا من الدول العربية مثل الكويت والعراق وليبيا وضعت مجموعة من البرامج والخطط العلمية، وافتتحت عددا من مراكز البحث العلمي لتشجيع العقول العربية المهاجرة على العودة، إلا أنها لم تنجح إلا في استقطاب القليل من الخبرات نظرا لعدم شمولية المعالجة وعدم النجاح في إيجاد بيئة علمية مستقرة، بل إن بعض المصادر تشير إلى أن بلدا كالعراق هاجر منه 7350 عالما في مختلف المجالات ما بين عامي 1991 و1998 بسبب الظروف السيئة التي ألمت به وظروف الحصار الدولي التي طالت الجوانب العلمية.
لاتوجد تعليقات