رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمود طراد 31 ديسمبر، 2019 0 تعليق

العقلانيون نشأتهم ومبادئهم (2) موقف العقلانيين من أهل الحديث والوحي


أيها القارئ الكريم، بعد أن تحدثنا في المقال السابق عن قواعد العقلانيين المغلوطة التي يقوم عليها كثير من مذهبهم المنحرف، نسلط الضوء في هذا المقال على تطبيقات لتلك القواعد، فيما يخص قضايا الشريعة وقضايا الغيبيات التي يقوم عليها الإسلام؛ فالدين عقيدة وشريعة، قال -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} الجاثية: 18 وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} البقرة: 120 وهذه القواعد المنحرفة أدت إلى اعتقادات منحرفة وأحكام مغلوطة فهيا بنا نطالع بعض تلك التطبيقات.

موقفهم من أهل الحديث

     لم يكن منهجهم مجرد التشكيك، بل يعمدون دائماً إلى التقليل من أهل الحديث وإهدار قيمتهم، فيرون أن حفاظ الحديث ليسوا سوى نسخ كالنسخ المطبوعة، رغم أن أهل الحديث من أشرف الناس سنداً إذ تتعلق مروياتهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والحرص على تعلم الحديث محمدة ومنقبة من مناقب الصحابة رضوان الله عليهم، وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسيدنا أبي هريرة حين سأله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة: لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث. فهذه فضيلة من فضائل الصحابة نالها رواة الحديث ونقلته من السلف ومن المعاصرين.

لا يؤمنون إلا بالحواس

     يقول أحدهم: إن طريقة البحث العلمي جعلتنا لا نتقيد إلا بالواقع الذي تدركه الحواس، وأن نتحرر من العقائد الغيبية. وأنت ترى -أخي القارئ- أنهم يوهمون الناس بأن العلم يتناقض بل يحارب الإيمان بما غاب عن حواس الإنسان، ويدعي أحدهم أن الإسلام هو الذي يدعوهم إلى ذلك، فيقول: «والدين الإسلامي يتميز بأن يدعو إلى المعرفة بالبحث والتحقيق التجريبي، ولا يطلب الإيمان دون اقتناع، ولا يفترض الاقتناع بغير برهان، فهو يختلف عن الأديان الأخرى، وإن تفرع عن بعضها، أو على الأصح استوعبه، يختلف من حيث إنه لا يعترف بالغيبيات أو من وجهة مختلفة لوجهة العلم أو على مدركات مخالفة لتلك التي تؤلف مادة العلم الطبيعي». وهذه دعوى باطلة زعم العقلانيون فيها أن عدم الإيمان بالغيبيات هو السبيل إلى التوفيق مع العلم الحديث.

منهج أهل السنة والجماعة

     فإن الإيمان بالغيبيات عندهم من أصول الدين، ولا يقوم الإسلام إلا عليه، فالإيمان بالله -تعالى- غيب والإيمان بالملائكة غيب وكذا الإيمان بالكتب والرسل، وليس من الغريب أن تتحدث أولى آيات القرآن الكريم عن الإيمان بالغيب، قال -تعالى-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} البقرة: 1- 3، وقد أخبرنا الله -تعالى- أنه لا يطلع على الغيب كل خلقه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} الجن: 26-27، وقال -تعالى-: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} آل عمران: 179، وأخبرنا أن عنده مفاتيح الغيب، فقال -تعالى-: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} الأنعام: 59، وما أكثر الآيات التي جاءت الإشارة فيها إلى الغيب، وأن الله وحده هو المتصرف فيه. فالإيمان به من أصول الدين ولا يقوم الإسلام إلا عليه.

سؤالنا للعقلانيين

     لماذا يرفض العلم الغيب في نظركم؟ فرغم أن العلم التجريبي لا علاقة له بالغيبيات وليس هذا مجاله ولا تخصص عمله إلا أن العقلانيين ينصبون الخلاف بينه وبين الغيب، بل إنه لا يملك أي وسيلة لذلك، فالعلم المادي إنما يقدم للعالم مناهج للبحث والابتكار المادي، كما أن العلم التجريبي علم مشاهدة واستنتاج واستقراء مادي حسي، وإن مما يناقض العلم والعقل أن يُستدل على الغيب بأدوات المعامل، أو بالاستقراء العقلي المجرد فلا سبيل لهذا العقل إلا بالوحي. قال -تعالى-: {وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} البقرة: 198 وقال -تعالى-: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} البقرة: 151، ومهما كانت كثرة النتائج التي توصل إليها العلم التجريبي فإنها في علم الله الغيبي لا تساوي شيئاً قال -تعالى-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} الإسراء: 85، وهكذا -أخي الكريم- ترى بنفسك أن انحرافهم في قضية الغيب تنحرف بعقيدة المسلم، فهذا ينكر القصص الواردة في القرآن، وآخر ينكر أحداث القيامة، وثالث لا يؤمن بالقضاء والقدر!

الواقع العملي من التوحيد

نؤمن بأن الله -تعالى- هو المستحق بالعبادة وأنه -تعالى- الخالق الرازق وأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وقد انحرف العقلانيون في العمل بمقتضيات هذه الأمور وهذه مظاهر انحرافهم:

- أولاً: فطالما أن الله -تعالى- هو الذي يستحق الطاعة والعبادة وحده فإنه عز وجل لا يعبد إلا بما شرع، ولا تقوم الدنيا إلا حسب مراده، لكن العقلانيين يقدمون عقولهم على النصوص ويقدمون آراء الرجال على الأحكام، قال -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} النساء: 65.

- ثانياً: أن ولاءهم ومحبتهم لغير الصالحين، بل يقدمون موالاة غير المسلمين على المسلمين، ويفضلون المستشرقين على العلماء المسلمين، فيستمدون منهم أفكارهم ويوالونهم عليها، ويدافعون عنها رغم أن رواد تلك النظريات العقلية نذروا حياتهم لمحاربة الله -تعالى-، ومن هؤلاء الذين يوالون ويعادون على نظرياتهم: (هيجل) و(كانت) و(سارتر) و(دارون) و(فرويد) وغيرهم.

أخطر مواقفهم تجاه القرآن الكريم

بما أن الوحي الشريف هو الرسالة التي تضمنت الدين، فإن العقلانيين بمبادئهم وقوانينهم لم يقفوا منه موقف المؤمن المصدق المؤيد، بل وقفوا منه موقف الناقد المتشكك، وقد برز موقفهم هذا في صور كثيرة منها ما يلي:

1- زعموا أن اتصال الرسول بالملك ونقل الوحي بالصورة المعروفة في ديننا أمر لا يقبله العقل، وأن العلم لم يثبت إمكانية حدوث مثل ذلك، فحكموا العقل في نقل الوحي.

2- يرى بعضهم أن القرآن الكريم كان نتيجة لتأملات باطنية وانفعالات نفسية، من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كانت له شخصيته الفذة العبقرية، وهذا الانحراف يأخذ إلى القول ببشرية القرآن، والقداسة التي يضعها المسلمون حول القرآن هي في نظرهم مبالغة لا أكثر.

3- القول بأن الوحي قد جاء ليصحح أوضاعاً معينة في أزمان معينة، وأن تطور العلم الحديث يؤكد في نظرهم على أن القرآن لم يعد صالحاً للتطبيق.

4- جرأتهم على تحريف معاني الآيات، حسب قوانينهم المنحرفة لتتماشى مع ما ذهبوا إليه سلفاً، فأهل الأهواء يعتقدون ثم يستدلون، خلافاً لأهل السنة الذين يستدلون ثم يعتقدون.

من أخطر أقوالهم في طريقة نزول الوحي

يصف أحدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه تلقى الوحي في حال إرهاق عقلي! فيقول: «لقد رأى العقل المرهق لدى محمد في هذا صورة أطياف نورانية، أطياف هي الوسيط بين الله في السماء والإنسان في الأرض»، وهذه فرية استشراقية، فعقل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مرهقاً بل كان عقلاً سوياً، كما يزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم- تلقى الوحي وهو في حال استغراق وتلك أيضا من شبهات المستشرقين؛ حيث يزعمون أن الوحي هو حال من الاستغراق الفكري والنفسي وحال من الغيبوبة واللاشعورية، يقول أحدهم: «ألقي في مسمع محمد صوت جديد وقال: إنك رسول الله، وحين كان محمد يستغرق في أفكاره كان ذلك الصوت يبدو له واضحاً جلياً». وأود التأكيد لك -أيها القارئ الكريم- على أن محاولتهم نشر تلك الفرية إنما هو لغاية معينة، فهم يرون أن حالة الاستغراق عند المفكرين والعباقرة مصدر إلهام وكشف، والنبي تلقى -في نظرهم- الوحي بهذه الطريقة، وعلى ذلك فلا داعي إلى القول بأن القرآن وحي أو أنه كلام الله! وكل هذا يتناقض مع الدين والعقيدة والفطرة.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك