العـــــلامة الســــــعدي… مواقــف وفــوائد يرويها الشيخ ابن عثيمين
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،أما بعد :
فإن من فضل الله تعالى على المرء أن يكون له تلاميذ أجلاء، فيشتهر كلٌّ من المعلم وتلميذه بالعلوم الجزيلة، ويُعرفون - معاً- بالأوصاف المحمودة والخصال الجميلة، وإن من أحق من وُصف بذلك حتى سارت في سيرة فضله الآفاق: المعلم العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وتلميذه الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمهما الله.
وبِحُكم ما قُدَّر لي من معاصرةٍ لحياة الشيخ محمد ابن عثيمين - رحمه الله - وما قُدِّر كذلك من وسائل عصرية تحفظ علمه الذي ثابر على إفادة طلاب العلم الشريف من فوائده، كان من فضل الله تعالى أنه حَبَّبَّ ويَسَّر لي قراءة عدد من مؤلفاته واستماع كثير من أشرطته - رحمه الله - وذلك رغبة في الاستفادة من مسلكه الفذّ في التقعيد والتأصيل للعلوم الشرعية، وحرصاً - بعد ذلك – على المساهمة قدر المستطاع في نشر تراث علمائنا الأجلاء -رحمهم الله تعالى - ولما كان هناك جانبٌ – ربما - غُفِل عن شيء منه، وهو جانب سيرة المربي العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي من خلال الكلمات المتفرقة لتلميذه الشيخ محمد ابن عثيمين، أحببت أن أكتب في هذه المقالة بعض المواقف والفوائد التي حفظها الشيخ محمد عن شيخه ابن سعدي، فيقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
1 – «إن عباراتي لا تستطيع أن تلم بما كان عليه من العلم والأخلاق والإحسان العظيم؛ فأنا ما رأيت أحداً أحسن أخلاقاً منه، رجل متواضع يحب الفقراء ويحب الستر عليهم وكان متواضعاً للطلبة»؛ «الشيخ عبد الرحمن بن سعدي هو شيخي، وأنا أشهد له بسلامة العقيدة، وحسن الخلق، والعمل الصالح.. ونحن -والحمد لله -اكتسبنا من أخلاقه شيئاً كثيراً لكن لم نلحق به حتى الآن.. وإنما بحسب ما يسر الله سبحانه؛ فالرجل -رحمه الله - درة زمانه، ولم نعلم أحداً مثله في حسن الخلق واللين والسعة». «فتاوى الحرم المكي 1412هـ/شريط رقم: 5، وجه: ب بتصرف واختصار»
2 - «كان الشيخ عبد الرحمن - رحمه الله- متواضعاً للطلبة، يمازحهم ويهدي لهم أشياء قد لا تكون ذات قيمة جلباً لقلوبهم، وربما يجعل الـجُعْلَ على حفظ بعض المتون، كما جعل على حفظ متن بلوغ المرام 100 ريال، وهي في ذلك الوقت قد تساوي 100 ألف تقريباً في الوقت الحالي». «فتاوى الحرم المكي 1412هـ/شريط رقم: 5، وجه: ب بتصرف»
3 - «حدثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - أنه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن، وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعامًا لها وتصعد به إلى الجدار وكلما صعدت سقطت،ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة وصعدت الجدار، فقال الكسائي: هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فثابر حتى صار إمامًا في النحو. «كتاب العلم ص62».
4 - «وقد كان شيخنا عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله لا يصبغ لحيته بشيء، وكان مفتي هذه البلاد الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - كذلك لا يصبغ الشيب، وكذلك إخوانه، وكذلك كثير من العلماء فيمن شاهدناهم لا يصبغون، لكن السنة لا شك أنها ثابتة سواء فعلها العلماء أم لم يفعلوها أنه ينبغي للإنسان أن يغير الشيب لكن بغير السواد، أما السواد فإن النبي[قال: «وجنبوه السواد».. «اللقاء الشهري (30).
5 - «إننا لا نأمر الناس باتخاذ الشعر بل نقول: إن اعتاده الناس وصار الناس يتخذون الشعر فاتخذه ؛ لئلا تشذ عن العادة، وإن كانوا لا يتخذونه كما هو معروف الآن في أهلنا فلا تتخذه؛ ولهذا كان مشايخنا الكبار كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد العزيز بن باز وغيرهم من العلماء لا يتخذون الشعر؛ لأنه ليس بسنة ولكنه عادة، ونحن نعلم أنهم لو رأوا أن هذا سنة لكانوا من أشد الناس تحرِّياً لاتباع السنة، فالصواب: أنه تَبَعٌ لعادة الناس، إن كنت في مكان يعتاد الناس فيه اتخاذ الشعر فاتخذه وإلا فلا. شرح رياض الصالحين ص383 ط: الوطن، لقاء الباب المفتوح رقم (126) السؤال رقم (16).
6 - حدثنا شيخنا - رحمه الله - أن رجلاً كان يكتب في حجرته فجاءت فأرة نزلت من السقف وجاءت حوله فوضع عليها إناءً فحبسها، ولما تأخرت عن زميلاتها جاءت واحدة منهن تبحث عنها أين ذهبت؟ وعَلِمَتْ أنها تحت الإناء، فصعدت إلى السقف وأتت بدينار ذهب، الدينار صغير، يعني تحمله بسهولة، جاءت بالدينار وألقته إلى جنب الرجل.
المهم: أن الرجل قال: لن أُطْلِقَها؛ فانْتَظَرَتْ – أي الفأرة - بلا فائدة،فصعدت إلى السقف وأتت بدينار آخر ووضعته ولكن الرجل قال: «وراء الأكمة ما وراءها!!» واستمر، فجاءت بثالث ورابع وخامس إلى عشرة، عشرة دنانير صار كتلة، فيقول: «في النهاية جاءت الفأرة بالكيس» إشارة إلى (إيش)؟ (خلاص خلص) الذي عندها، فلما جاءت بالكيس فتح الإناء وقتلها، وأما الفأرة الثانية فهربت».. شرح صحيح البخاري شريط رقم: 17 وجه: (1).
7 – ومن المواقف والذكريات اللغوية عندما تم التطرق إلى «الإشمام: وهو أن تأتي بحركة بين الكسرة والضمة، فتنطق القاف من (قيل) لا مضمومة ولا مكسورة، بل بحركة بينهما، والنطق بالإشمام أمر فيه صعوبة.
وقد كان شيخنا عبد الرحمن بن السعدي -رحمه الله- يُدَرِّسُنا في هذا الباب ولم نعرف كلنا لا نحن ولا هو؛ لأنه صعب جداً، لكن لعل العرب الذين ألفوا هذه اللهجة تسهل عليهم، ونحن هنا في المملكة في بعض الجهات يتكلمون بلهجة لا نستطيع أن نتكلم بها، وهي عندهم سهلة، وهذا شيء معروف». «شرح ألفية بن مالك شريط: 33، وجه (أ).
8 – وكذلك أثناء شرح ألفية ابن مالك في اللغة وتحديداً عند قوله:
وأظهر إن يكن ضميرٌ خبرا
لغير ما يطابق المفسّرا
«هذا البيت والذي بعده قرأناه على شيخنا عبد الرحمن بن السعدي مرات عدة وعجزنا عن فهمه وتركيبه، وتمثلنا بقول الشاعر: «إذا لم تستطع شيئاً فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع». «شرح ألفية ابن مالك/ شريط رقم: 36 وجه: (أ)».
9 – وهذه فائدة أخرى تتصل بعلوم اللغة والعقيدة وغيرهما وهي حول تعلم «أبا جاد»؛ فإن «تعلم «أباجاد» ينقسم إلى قسمين: الأول: تعلم مباح بأن نتعلمها لحساب الجُمل، وما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به، وما زال أناس يستعملونها، حتى العلماء يؤرخون بها، قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي- رحمه الله- في تاريخ بناء المسجد الجامع القديم:
جد بالرضا واعط المنى
من ساعدوا في ذا البنا
تاريخه حين انتهى
قول المنيــــــــــــب اغفر لنا
والشهر في شوال يا
رب تقـــــــــــــــــبل ســـــــــعينا
فقوله: «اغفر لنا» لو عددناها بحساب الجمَّل صارت 1362هـ.
وقد اعتنى بها العلماء في العصور الوسطى، حتى في القصائد الفقهية والنحوية وغيرهما». «القول المفيد على كتاب التوحيد (2/64ط: العاصمة)».
10 - ومن الذكريات كذلك تعليق للشيخ حول القول بفناء النار المنسوب لابن القيم، فـإني أذكر تعليقاً لشيخنا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله - على كتاب: «شفاء العليل» لابن القيم؛ ذَكَرَ أن هذا القول من باب: «لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة». وهو صحيح؛ كيف أن المؤلف -رحمه الله- يستدل بهذه الأدلة على القول بفناء النار مع أن الأمر فيها واضح؟! غريب على ابن القيم -رحمه الله- أنه يسوق الأدلة بهذه القوة للقول بأن النار تفنى! وعلى كل حال، كما قال شيخنا في هذه المسألة: «لكل جواد كبوة؛ ولكل صارم نبوة»(1) «تفسير سورة البقرة آية: (24).
11 – وأما في الفقه فينبغي لطالب العلم الحرص على حفظ المتون وأحسن ما نرى «زاد المستقنع في اختصار المقنع» وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - يوصينا به، ويقول: إنه من أجمع الكتب المختصرة، «وكان شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي -رحمه الله تعالى- يحثنا على حفظه, ويدرسنا فيه، وقد انتفعنا به كثيرا ولله الحمد». «اللقاء الشهري، شريط (38)، الشرح الممتع (1/5)».
12 – ومن الذكريات والفوائد الفقهية: حَثُّ الأئمة على العناية بتطبيق السنة في تسوية صفوف المأمومين، حتى لو «فَرَّطَ في هذا الأمر مَنْ فَرَّطَ مِنْ بعضِ أئمة المساجد فإن السنة أحق بالاتباع، وأما من قال: إن الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - كان لا يفعل كذلك، فأنا أشهد على الشيخ - رحمه الله - أنه كان يتلفت إذا أقيمت الصلاة يميناً وشمالاً فإذا رأى تقدماً أو تأخراً قال: تقدموا يا طرف الصف أو تأخروا،هذا وأسأل الله للجميع التوفيق لما يرضيه». «مجموع فتاوى ورسائل 13/ 33».
13 – وأما في رمضان «فكان (شيخنا) يختم القرآن في التراويح والقيام ثم يدعو، أنا أحفظ عنه أنه كان إذا ختم القرآن وصار في آخر ركعة في التراويح رفع يديه وجعل يدعو قبل الركوع وكذلك في القيام للتهجد؛ لأن الناس في الأول كانوا يعتنون اعتناء بالغاً ويحافظون على ختم القرآن ختمة في التراويح وختمة في التهجد ويحرصون على ذلك غاية الحرص، لكن الآن تغيرت الأوضاع فصار بعض الناس يرى أن هذه الختمة ليس لها أصل عن السلف، ومنهم من قال باستحبابها دون أن يقول إنها مستندة إلى نص، والأمر في هذا واسع، فمن دعا في الصلاة بعد الختم فلا حرج عليه إن شاء الله، ومن لم يفعل فهو أحسن». «فتاوى الحرم المكي / شريط رقم: 5 وجه: ب».
14 – وأما في باب الزكاة والصدقات فإن الشيخ عبد الرحمن - رحمه الله- «رجل متواضع يحب الفقراء ويحب الستر عليهم، ولم يكن الناس في عهده على هذا المستوى من الغنى، بل كان عامتهم من الفقراء، فكان -رحمه الله- يذهب بنفسه إذا جاءته الزكاة أو الصدقات إلى الرجل الفقير يطرق عليه الباب ويمد له ما في يده من غير أن يشعر». «فتاوى الحرم المكي 1412هـ/ شريط رقم: 5 وجه: ب».
15 – وهذا موقف متعلق بأحكام الحج يحتوي فائدة منهجية مهمة في الفتوى؛ وهي أنه إذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة عومل بمقتضاها ما لم يخالف النص.
وكذلك إذا كان الأمر قد وقع وكان في إفتائه بأحد القولين مشقة وأفتى بالقول الثاني فلا حرج، مثل: أن يطوف في الحج أو العمرة بغير وضوء ويشق عليه إعادة الطواف ؛ لكونه نزح عن مكة،أو لغير ذلك فيفتي بصحة الطواف بناء على القول بعدم اشتراط الوضوء فيه.
وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يفعل ذلك أحيانًا ويقول لي: هناك فرق بين من فعل ومن سيفعل وبين ما وقع وما لم يقع. «كتاب العلم».
16 – وحول عدم إجزاء الشاة العجفاء التي لا مخ فيها في باب الأضاحي ونحوها «أورد شيخنا عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله - مسألة، فقال: إنه إذا كان قحط وجدب والأرض لا تنبت، ثم جاء المطر وأنبتت الأرض، ورعت المواشي، وكانت الأول المواشي من الهُزال ما فيها مخ؛ لأنها لا ترعى، ثم نزل المطر، ونبتت الأرض ورعت وسمنت سمنا كبيرا، ولكن ليس فيها مخ فهل تجزئ أو لا تجزىء؟ تجزي؛ لأن الحديث «العجفاء التي لا مخ فيها» وهذه ليست عجفاء، قال شيخنا: وهذا يقع كثيراً، حدثه بذلك أهل البادية». «شرح صحيح البخاري شريط: (12) وجه : (ب)».
17 - وفي الختام فالشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي «لم يعرف الناس قدره وما أسدى للأمة من العلوم الجمة إلا بعد وفاته -رحمه الله - فالرجل - رحمه الله - درة زمانه ولم نعلم أحداً مثله في حسن الخلق واللين والسعة؛ فنسأل الله أن يعمنا وإياكم برحمته وإياه، وأن يجمعنا في دار كرامته». «فتاوى الحرم المكي/ شريط رقم: 5، وجه: ب».
هوامش :
1- حُكي هذا القول عن ابن القيم - رحمه الله - إلا أنه لم ينقله عنه أحد من تلاميذه وأصحابه وأقرانه، وصريحُ كلامه مخالفٌ تماماً لهذا القول حيث نص على أن دُورَ أهل الآخرة ثلاثة: دار الطيب المحض «الجنة»، ودار الخبث المحض «للكفار والمنافقين»، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار عصاة الموحدين. انظر: الوابل الصيب ص49.
لاتوجد تعليقات