العدل بين الرجل والمرأة حقيقته وموقف الإسلام منه
إن من حِكم الله -تعالى- أن خلق البشر مختلفين -ذكرًا وأنثى -وجعل لكل منهما مهمة؛ لتحقيق المصالح الدنيوية والأخروية وتكثيرها، ودفع المفاسد والمضار وتقليلها، كما شرع -سبحانه- ما ينظم العلاقة بين الجنسين، على أساس من التكامل وليس التناحر والنِّدِّيَّة، لذا حثت الشريعة على إقامة العدل بين الرجل والمرأة.
ومع انتشار الدعوات وارتفاع الصيحات التي تنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة في عصر العولمة الذي نعيش فيه؛ إذا ببعض المفكرين والكُتَّاب تستهويهم تلك الدعوات ويحسبون أنهم على شيء، علمًا بأن المساواة بين المختلفَين هي عين الظلم، وكيف تتحقق المساواة بينهما وقد جاء صريحًا في القرآن الكريم التفرقة بين الجنسَين، كما في قوله -تعالى-: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} (آل عمران: 36)، هذا مع ما في كلمة «المساواة» من الاشتراك والإجمال، بالإضافة إلى عدم دلالتها على المقصود بدقة، خاصة إذا استحضرنا أن تلك الدعوات المنادية بالمساواة في أصلها تروِّج إلى فكرة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في كل شيء، وهو شيء تخالفه الفِطر السليمة، وتمجُّه العقول المستقيمة، فضلًا عن الشريعة السمحاء.
وحتى لا يُفهم الكلام على غير محمله، ويؤخذ إلى غير طريقه، لابدَّ من التأكيد على أن الإسلام يدعو إلى العدل بين الرجل والمرأة، ويحث على قيام كل واحد منهما بوظيفته المناسبة لخَلقِه وبنيته؛ يقول الله -تعالى-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14)، وفرق كبير بين العدل والمساواة.
تشريف الإسلام للمرأة
مما لا شك فيه أن دين الإسلام تحرى العناية بإصلاح شأن المرأة، كيف لا وهي نصف النوع الإنساني! فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما النساء شقائق الرجال»، وشقائق جمع شقيقة، والشقيق: المثل والنظير، كأنه شُقَّ هو ونظيره من شيء واحد، فهذا شِقّ وهذا شِقّ، ومنه قيل للأخ شقيق، والمعنى: أن الخِلقة فيهم واحدة، والحكم فيهم بالشريعة سواء.
مكانة رفيعة
وللمرأة مكانة رفيعة في المجتمع الإسلامي، ينظر إليها على أنها المربية للمجتمع بأسره، وكما يقول الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
فهي الأم والأخت والبنت والزوجة؛ لذا كانت مكانتها راجعة إلى ما يلقى عليها من أعباء وواجبات، قد تفوق -في بعض الأحيان- ما يتحمله الرجل، وقد دل القرآن الكريم على هذه المكانة إجمالا، وفصلتها السنة النبوية المطهرة.
منشأ شبهة المساواة بين الرجل والمرأة
ظهرت فكرة المساواة بين الرجل والمرأة في أوروبا إبان الحرب العالمية؛ حيث لجأت الشركات والمصانع إلى توظيف النساء والصغار تعويضًا لقلة الرجال الذين فُقدوا بكثرة في الحرب العالمية، وكانت الأجور التي تُدفع للنساء زهيدة رخيصة مقارنة بما يُدفع للرجال العاملين في الوظائف نفسها؛ مما أثار غضب النساء وارتفعت الأصوات مطالبة بالمساواة في الأجور والأعمال، وهذا السبب وإن كان مسوغا لما وقع في أوروبا، لكنه ليس مسوغا لنقله وتعميمه في بلاد المسلمين، ولاسيما ما تحمله هذه الدعوات من هدمٍ للقيم والمبادئ الإسلامية، ونزع لباس الحياء عن المرأة، وضياع لوظيفتها في بناء الأمة وحفاظها على أسرتها.
ولهذا حرص الغرب على نشر تلك الدعوات بين المسلمين، عن طريق عقد المؤتمرات العالمية، كالمؤتمر الدولي للسكان في القاهرة سنة 1415هـ، ومؤتمر بكين واحد، ومؤتمر بكين اثنين، وفي الترويج لمفهوم (الجندر) = (Gender)، وهو كلمة إنجليزية تنحدر من أصل لاتيني، وهي تعني: المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، أي: إزالة الفروق النوعية بين الرجل والمرأة، على اعتبار أن الرجل يتمتع بقوة اجتماعية وسياسية ضمن ما يطلقون عليه المجتمع الذكوري، ويجب إعطاء المرأة قوة اجتماعية وسياسية واقتصادية تساوي ما للرجل في المستويات جميعها، حتى داخل الأسرة.
كلمة (المساواة) وعدم
مناسبة استعمالها
كلمة (المساواة) فيها إجمال، وتحتاج إلى تفصيل وبيان، بخلاف كلمة (العدل)، فهي كلمة صريحة في الدلالة على المقصود؛ إذ تدل على وضع الأمور في مواضعها، وإعطاء كل ذي حق حقه، من غير وكس ولا شطط، ويظهر هذا من خلال الآتي:
المساواة بين الجهات المتفقة
المساواة بين الجهات المتفقة غير المختلفة هي من العدل بطبيعة الحال؛ لذا جاءت الشريعة بالتسوية بين الزوجات في القَسْم، فيجب على الرجل أن يساوي بين زوجاته في القَسْم، يقول ابن قدامة: «لا نعلم بين أهل العلم في وجوب التسوية بين الزوجات في القَسْم خلافًا»، وفي الحديث عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقّه ساقط»، وفي لفظ: «يميل مع إحداهما على الأخرى»، وفي لفظ: «فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل».
المساواة بين الجهات المختلفة
أما المساواة بين الجهات المختلفة والمتباينة فإنها لا تسمى عدلًا، بل هي محض الظلم لطرفٍ على حساب طرفٍ آخر، أو للطرفين معًا، وقد بيّن القرآن الكريم الفوارق بين الذكر والأنثى إجمالًا، يقول -تعالى- ذكره: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} (آل عمران: 36). والمعنى كما قال الربيع: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها، وكانت على رجاء أن يهبَ لها غلامًا؛ لأن المرأة لا تستطيع ذلك -يعني: القيام على الكنيسة لا تبرحها، وتكنُسها -لما يصيبها من الأذى -يعني: الحيض والنفاس ونحوهما.
التسوية لم تأت في غالب الآيات القرآنية إلا على جهة النفي، ومن الأمثلة على ذلك: قوله -تعالى-: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (المائدة: 100)، وقوله -تعالى-: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَ} (الحديد: 10)، وقوله -عز وجل-: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون} (الحشر: 20)، وقوله -سبحانه-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} (الزمر: 9). وذلك لوضوح الفروق بين المتقابلات في الآيات الكريمات السابقة، ولا يخفى ما في هذا من تأكيد اعتبار العدل ميزانًا ومعيارًا لضبط الأمور.
مظاهر تحقيق العدل
بين الرجل والمرأة
العدل في التشريع والإسلام بمثابة الروح التي تسري في جنبات الحياة؛ فما من تشريع في الإسلام إلا وهو قائم على العدل؛ لذا جاء الأمر به صريحًا في القرآن الكريم، يقول الله تقدست أسماؤه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} (النحل: 90). {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَ} (الأنعام: 152)، وفيها يأمر الله -تعالى- بالعدل في الفعال والمقال، على القريب والبعيد، والله -تعالى- يأمر بالعدل لكل أحد، في كل وقتٍ وفي كل حال، وقد تجلّت مظاهر العدل بين الرجل والمرأة في جوانب عدة، ومن أبرزها:
أولًا-جانب العبادات
وحقوق الله -تعالى
لم يفرق الشارع الحكيم بين الذكر والأنثى في العبادات وحقوق الله -تعالى-، قال -عز وجل-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97). وفي مقام الجزاء الأخروي يقول -تعالى-: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران: 195). وجعل الأصل هو المساواة بين الرجل والأنثى إلا في حالات استثنائية بحسب طبيعة كل منهما واستعداده، لأداء وظيفته؛ ومن الأمثلة على ذلك:
أن المرأة تترك الصلاة والصيام إذا أصابها الحيض روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أليس إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تصم؟ فذلك نقصان دينها».
أن الله -تعالى- فرض الجهاد على الرجل دون النساء؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد فقال: «جهادكن الحج».
ثانيًا -جانب المعاملات وحقوق العباد
المرأة كالرجل في باب المعاملات وحقوق العباد، فلها حق التصرفات المالية المطلق في مالها، سواء بالتبرع أم المعاوضة أم الهبة، ما لم يكن هناك مانع من التصرف: كالجنون أو السفه أو الحجر، وليس لزوجها أن يمنعها من التصرفات المالية الخاصة بها، وفي الحديث: أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتجزئ الصدقة على الزوج، وعلى أيتام في حجرها؟ فأجابها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة».
ثالثًا -العلاقات الأسرية
الناظر إلى العلاقات الأسرية في التشريع الإسلامي يرى بوضوح أن من أهم سماتها ومميزاتها العدل بين الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات، وفي هذا المعنى يقول الله -تعالى-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} (البقرة: 228)، وتعد هذه الآية من أوائل ما نزل في الإسلام لبيان العلاقة بين الزوجين، والقائمة على إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، بغض النظر عن جنسه، ويؤكد الراغب الأصبهاني هذا المعنى بقوله: «يتبين أن لكل واحد على الآخر حقًّا كحق الآخر، فمما تشاركا فيه مراعاتهما للمعنى الذي شرع لأجله النكاح وهو طلب النسل، وتربية الولد، ومعاشرة كل واحد منهما للآخر بالمعروف، وحفظ المنزل، وتدبير ما فيه، وسياسة ما تحت أيديهما؛ حماية كل واحد على الآخر بقدر جهده وحده».
فكما أن على النساء واجبات تجاه أزواجهن، فإن الآية مصرحة بأن لهنَّ حقوقًا قبل أدائهن لهذه الواجبات، بهذا الميزان ضربت الآية أروع الأمثلة في التعاملات الأسرية بين الرجل والمرأة؛ فانكشف بذلك زيف الحضارة المادية الحديثة التي لم تجعل للمرأة حقوقًا أصلًا، وإنما عاملتها على أنها سلعة للاستمتاع، تباع وتشترى كما السلع الأخرى.
التسوية في الحقوق والواجبات
ومما يسترعي النظر في الآية الكريمة كلمة (مِثْلُ) وما تضمنته من التسوية بين الجنسين في الحقوق والواجبات، والمعنى: المساواة في جملة الحقوق والواجبات لا المساواة في جنسها، على تفصيل في ذلك بينته الشريعة؛ فقد يكون وجه المماثلة بينهما ظاهرًا لا يحتاج إلى بيان كالمماثلة بينهما في تربية الأولاد وتنشئتهم على الإسلام، وقد يكون خفيا يحتاج إلى بيان وتفصيل، وبطبيعة الحال فإنه مما يعلم سلفًا الاختلاف والتباين بين الذكر والأنثى، سواء في التكوين الجسدي، أم في مقاصد خلق كل واحد منهما؛ إذ جعل الله -تعالى- لكل من الذكر والأنثى وظيفة تناسب قدراته وخِلقته والمقصد الذي خُلق له، يقول -تعالى-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14).
بتصرف من مقال مركز سلف للبحوث والدراسات
منازعة لإرادة الله الكونية القدرية
يقول الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: «من ينكر الفوارق الشرعية بين الرجل والمرأة، وينادي بإلغائها، ويطالب بالمساواة، ويدعو إليها باسم «المساواة بين الرجل والمرأة» فهذه بلا شك نظرية إلحادية؛ لما فيها من منازعة لإرادة الله الكونية القدرية في الفوارق الخَلقية والمعنوية بينهما، ومنابذة للإسلام في نصوصه الشرعية القاطعة بالفرق بين الذكر والأنثى في أحكام كثيرة».
دعوات هدَّامة
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-: «يجب على ولاة أمر المسلمين، أن يتخذوا التدابير اللازمة لمنع هذه الشرور عن المسلمين، وأن يقفوا صفًّا واحدًا في وجه هذا الغزو الفكري، وعلى المسلمين أخذ الحيطة والحذر من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين».
لاتوجد تعليقات