رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أمير الحداد 4 أكتوبر، 2016 0 تعليق

العبر من قصار السور- البينـة (2)

     بينما كنا ننتظر رحلتنا، كان لقاؤنا في قاعة الضيافة، في مطار إحدى دول الخليج، تابع صاحبي حديثه. {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5) هذا إبطال ثالث لتنصلهم من متابعة الإسلام بعلة أنهم لا يتركون ما هم عليه حتى تأتيهم البينة وزعمهم أن البينة لم تأتهم.

     وهو إبطال بطريق القول بالموجب في الجدل، أي إذا سلمنا أنكم موصَوْن بالتمسك بما أنتم عليه، لا تنفكون عنه حتى تأتيكم البينة؛ فليس في الإسلام ما ينافي ما جاء به كتابكم؛ لأن كتابكم يأمر بما أمر به القرآن، وهو عبادة الله وحده دون إشراك، وذلك هو الحنيفية وهي دين إبراهيم الذي أخذ عليهم العهد به؛ فذلك دين الإسلام وذلك ما أمرتم به في دينكم.

فالمعنى: وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا أن يعبدوا الله مخلصين إلى آخره.

     فإن التوراة أكدت على اليهود تجنب عبادة الأصنام، وأمرت بالصلاة، وأمرت بالزكاة أمرا مؤكدا مكررا، وتلك هي أصول دين الإسلام، والإنجيل لم يخالف التوراة، أو المعنى وما أمروا في الإسلام إلا بمثل ما أمرهم به كتابهم، فلا معذرة لهم في الإعراض عن الإسلام على كلا التقديرين.

- كلام جميل، وحجة مقنعة لمن أراد الحق.

- ولكن لماذا قدم أهل الكتاب على المشركين، في أول آية مع أن كفر هؤلاء أشد من أولئك؟!

- هذا لأن أهل الكتاب كانوا يعلمون بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت لديهم علامات لبعثته، أما المشركون فكانوا لا يعلمون شيئاً، بل ربما لجؤوا إلى أهل الكتاب لإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم  أو الاستعانة بهم لإبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما علموهم أن يسألوا عن (الروح) و(أصحاب الكهف) و(ذي القرنين).

     والمقصود إقامة الحجة على أهل الكتاب وعلى المشركين تبعا لهم؛ بأنهم أعرضوا عما هم يتطلبونه؛ فإنهم جميعا مقرون بأن الحنيفية هي الحق الذي أقيمت عليه الموسوية والعيسوية، والمشركون يزعمون أنهم يطلبون الحنيفية ويأخذون بما أدركوه من بقاياها، ويزعمون أن اليهودية والنصرانية تحريف للحنيفية؛ فلذلك كان عامة العرب غير متهودين ولا متنصرين، ويتمسكون بما وجدوا آباءهم متمسكين به، وقل منهم من تهودوا أو تنصروا، وذهب نفر منهم يتطلبون آثار الحنيفية مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت.

      {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (البينة:6). {أولئك هم شر البرية} كالنتيجة لكونهم في نار جهنم خالدين فيها؛ فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها، وهو إخبار بسوء عاقبتهم في الآخرة وأريد بالبريئة هنا البريئة المشهورة في الاستعمال وهم البشر، فلا اعتبار للشياطين في هذا الاسم وهذا يشبه الاستغراق العرفي.

والبريئة: فعيلة من برأ الله الخلق، أي صورهم.

     وجريا على عادة القرآن في تعقيب نذارة المنذرين ببشارة المطمئنين وما ترتب على ذلك من الثناء عليهم، وقدم الثناء عليهم على بشارتهم على عكس نظم الكلام المتقدم في ضدهم ليكون ذكر وعدهم كالشكر لهم على إيمانهم وأعمالهم فإن الله شكور .

     {عند ربهم} ظرف وقع اعتراضا بين {جزاؤهم } وبين {جنات عدن} للتنويه بعظم الجزاء بأنه مدخر لهم عند ربهم تكرمة لهم؛ لما في {عند} من الإيماء إلى الحظوة والعناية وما في لفظ ربهم من الإيماء إلى إجزال الجزاء بما يناسب عظم المضاف إليه {عند}، وما يناسب شأن من يرب أن يبلغ بمربوبه عظيم الإحسان.

     وإضافة: {جنات} إلى {عدن} لإفادة أنها مسكنهم؛ لأن العدن الإقامة أي ليس جزاؤهم تنزها في الجنات بل أقوى من ذلك بالإقامة فيها.

وقوله {خالدين فيها أبدا} بشارة بأنها مسكنهم الخالد.

     ومن تمام نعيم أهل الجنة أن كل واحد منهم لا يطلب تحولا عما هو عليه من النعيم؛ لأنه لا يرى أن أحدا أكمل منه، ولا يحس في قلبه أنه في غضاضة بالنسبة لمن هو أرقى منه وأكمل، قال العلماء: من تحت قصورها وأشجارها وإلا فهو على سطحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار.

     وقد جاء في الآثار من وصف هذه الأنهار تجري بغير أخدود وبغير خنادق بمعنى أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجه حيث وجهه الإنسان، ولا يحتاج إلى شق خنادق، ولا إلى بناء أخدود تمنع سيلان الماء يمينا وشمالا.

     {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وهذا أكمل نعيم أن الله -تعالى- يرضى عنهم، فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط بعده أبدا، بل وينظرون إلى الله -تبارك وتعالى- بأعينهم كما يرون القمر ليلة البدر لا يشكون في ذلك، ولا يمترون في ذلك، ولا يتضامون في ذلك، أي لا ينضم بعضهم إلى بعض ليريه الآخر، بل كل إنسان يراه في مكانه حسبما أراد الله -عز وجل- ثم قال عز وجل: {ذلك لمن خشي ربه} أي ذلك الجزاء لمن خشي الله -عز وجل- والخشية هي خوف الله -عز وجل- المقرون بالهيبة والتعظيم، ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله، كما قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} (فاطر:28)، أي العلماء أعلم بعظمته وكمال سلطانه، فالخشية أخص من الخوف، ويتضح الفرق بينهما بالمثال: إذا خفت من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا؟ فهذا خوف، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك