العالم الرباني
في كل يوم يُقبل تشتد حاجة الأمة إلى العالِم الرباني الذي وصفه الله بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28)، ووصفه بقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران:79)؛ ذلك أن العلماء ورثة الأنبياء، يهدون إلى الحق ويرشدون إليه؛ فهم منارات الهدى ومصابيح الدجى؛ فلولا العلماء لكان الناس كالأنعام، لا يعرفون معروفًا، ولا يُنكرون منكرًا.
ففضل العلماء على الأمة عظيم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24)، فالإمامة في الدين إنما تُنال بالصبر واليقين؛ وعليه فهَل كل مَن لبس العمامة والجبة عالم؟ وهل كل مَن أشير إليه بالبنان عالم؟
كلا؛ فالعالم الذي يَخشى الله ويتقيه حق تقاته هو الذي يعمل بطاعته، ويحذر معصيته، يطلب العلم لله، ليس مِن أجل أن يماري به العلماء، أو ليجاري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أو ليوسع له في المجالس، وتُغدق عليه الجوائز والصلات، ويُلقى عليه هالة مِن التقديس؛ فيمدح بما ليس فيه، ويتشبع بما لم يعطَ؛ فيغدو كلابس ثوبي زور!
العالم الرباني, هو العالم العامل، المعلم الفقيه البصير بحال الناس، قال ابن قتيبة: «واحدهم رباني، وهم العلماء المعلِّمون» (زاد المسير لابن الجوزي، 1/413)، وقال الإمام البخاري: «الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره» (صحيح البخاري، 1/160)، وقال العلامة المفسر عبد الرحمن بن ناصر السعدي: «الربانيين: أي: العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية ويسلكون معهم مسلك الأنبياء» (تفسير السعدي، ص 232).
قال ابن القيم عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ»: «وفيه تنبيه لأهل العلم على تربية الأمة كما يربي الوالد ولده، فيربونهم بالتدريج والترقي مِن صغار العلم إلى كباره، وتحميلهم منه ما يطيقون، كما يفعل الأب بولده في إيصال الغذاء إليه» (مفتاح دار السعادة، 1/69).
صفات العالم الرباني
من الصفات المهمة للعالم الرباني ما يلي:
- التمسك بنصوص الكتاب والسُّنة، مع معرفته للناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص؛ فهو لا يجتهد في مقابل النصوص، ويفهمها بفهم سلفه الصالح لها.
- معرفته التامة بمعتقد أهل السُّنة والجماعة، ويظهر ذلك على حديثه، مع التحذير مما يخالف ذلك.
- بعده عن الغرائب، والقصص الكاذب، مع اهتمامه بتقرير الأحكام بناءً على النصوص لا على التعصب المذهبي أو الرأي المقيت.
- سريع الرجوع عند الخطأ، ويتقبل النصح، ويبتعد عن داء العظمة قولًا وفعلًا.
- له تاريخ علمي طويل مع علماء أكابر؛ فالعلم سلسلة ذهبية منتظمة لا قطع فيها.
- كثير الاستشهاد بكلام العلماء، والإحالة إلى كتبهم، مع معرفة منازلهم.
- بعده عن السب، والدخول في النيات، والانتصار للذات، واختلافه مع الآخر يقصره على العلم لا غير.
- يعرف قدر ولاة أمره، ويدعو لهم، ويطيعهم بالمعروف وفي المعروف، دون غلو ولا إجحاف، فلا ينقصهم حقهم، ولا يبالغ في الثناء عليهم، ولا يخالطهم خلطة تؤثر على عبادته، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، مع عدم قبول العطاء لا تحريمًا له، وإنما تورعًا عن تأثير ذلك على عدل قوله.
- عدم حبه للظهور، والحرص عليه في وسائل الإعلام، وإنما همه الأول خلطة الناس وتعليمهم وتوجيههم.
- الاهتمام بتعليم الناس في المساجد، مع البدء بصغار العلم، ومِن ثَمَّ التدرج في العلم مع طلابه، فالعلماء يعرفون بدروسهم المستمرة ولو لم يحضر عندهم إلا القليل، والوعاظ والقصاص على العكس، فهم يحرصون على الأعداد، وليس لهم دروس في العقيدة أو الفقه؛ لأن هذه الدروس لا يحضرها إلا القلة، وهم لا يريدون ذلك؛ فالعالم يهتم بجانب تربية الأجيال وإعدادهم لنفع الأمة، والوعاظ يهتمون بكثرة الجمهور مع عدم حرصهم على الدروس؛ لعدم أهليتهم، ولطول نفس العلم، وهذا شيء لم يألفوه.
- يحافظ على الفرائض والسنن، مبتعدًا عن المحرمات والمكروهات، واصلًا للرحم والقرابات، كثير الذكر، طويل الصمت بغير العلم والذكر، بينه وبين الله خبايا وأسرار مِن: خشوع، وتذلل، وتواضع، وخضوع، وقيام، وصدقة، وصيام، وكثرة تضرع، وصحبته للقرآن، وبعده عن العجب، والغرور، والكبر، والمنة، واللغط.
- يخاف أن يفتح على الأمة باب شر بكلمةٍ منه؛ ولذلك فهو لا يتجاسر على القول بشيء أحجم عن القول به الكبار علمًا وديانة على مدار التاريخ.
- يقدر أهل العلم، ويحب طلاب العلم، وينزل الناس منازلهم، ويجمع ولا يفرِّق، ويناصِر أهل السُّنة، ويناصح أهل البدعة، ولا تأخذه في الله لومة لائم، فهو يحارب الأفكار المنحرفة، والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة.
- بعده عن أماكن الشبهة، وعدم مجالسته لمَن عرف بحربه لأهل السنة إلا إذا كان مِن باب النصح له وإقامة الحجة.
- عليه سمت أهل العلم، وهيبة الدين، ولا يخرج عن عرف أهل العلم، وتظهر السُّنة في قوله وفعله، ولبسه، وجميع حاله، ويحرص على دعوة الناس وهدايتهم إلى ربهم؛ فهذا هدفه الذي يسعى إلى تحقيقه، ومِن ثَمَّ يصبر على أذى الخلق، ولا يثنيه ما يجد مِن أذيةٍ عن تبليغ شرع الله، ويصبِّر الناس، ويفتح لهم باب الفأل ولا يقنطهم، ولا يثير النعرات والعصبيات في المجتمعات، ولا يدعو إلى حزبيات وثورات، أو مظاهرات واعتصامات.
لاتوجد تعليقات