رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. ياسر حسين محمود 24 فبراير، 2020 0 تعليق

الظواهر السلبية في حياتنا.. أسباب وعلاج ( 3) الصحبة السيئة

                

ما زال الحديث مستمرًا حول الظواهر السلبية في حياتنا وطرائق علاجها، وقد ذكرنا في مقدمة المقال السابق، أن تلك الظواهر تعددت بطريقة غير مسبوقة، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ»، قَيلَ: ومَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: «الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ»، قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ؟ قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ»، قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟ قالَ: «لَا، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكُم الزَّمَانِ حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ». (أخرجه أحمد وابن ماجه بنحوه، وصححه الألباني)، واليوم نتكلم عن الصحبة السيئة.

      إن الإنسان قد خُلق مدنيًّا بطبعه، يميل بفطرته إلى العيش في تجمعاتٍ، وهذه التجمعات تؤثِّر في بعضها بعضا أعظم تأثير، وبها تُقبل العقائد الباطلة حتى عَبَد الناسُ الأوثانَ التي نَحَتُوها من دون الله، كما قال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (العنكبوت:25)، وقال -تعالى-: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} (هود: 109)، وهل يَقبل عقلُ الإنسان أن يعتقد الإلهية في حجرٍ جمادٍ قد نحته بيده؟ قال -تعالى-: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} (الصافات: 95)! أو أن يَركع ويَسجد ويَعبد بقرةً غيرُه يذبحها أو قردًا غيرُه يربطه ويَلعب به، وهل يَحتمل عقلُ إنسانٍ عاقلٍ أن يُقَدِّس أو يُعَظِّم وَثَنًا يرمز إلى إهانة الإله، وقتله وإذلاله -على حسب اعتقادهم؟ وما حدث ذلك إلا بالتقليد للطائفة التي نشأ فيها الإنسان.

السلوكيات الشائنة

     وكذلك قبول ما يخالف الفطرة الإنسانية من السلوكيات الشائنة التي تخالف طبيعة الجسم الإنساني وأجهزته، وما فُطِر عليه من حب الستر والمبادَرَة إلى ذلك، وأنه يسوؤه ظهور العورات وكشفها، قال -عز وجل-: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} (الأعراف: 22)، وقال -تعالى-: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (الأعراف:26)، ومع أن الإنسان مضى عليه آلاف السنين يستقبح كشف العورات، إلا أن زمانًا مثل زماننا حصل فيه هذا الأمر؛ بسبب الصحبة السيئة التي قَبِلَت ذلك ورَوَّجَتْهُ، ثم أشاعته في المجتمع، ثم في العالم، وزعمت أنه حق لها ولمَن أراد ذلك.

أثر المجتمع والصحبة

     ولو عَددنا تأثير المجتمع والصحبة والجماعة في قيم الإنسان ومعتقداته، وأفعاله وأقواله لطال بنا الكلام؛ فانتشار الظلم والضرب، والشتم والسب والقذف، وسب الآباء والأمهات -وربما سب الدين-، إنما هو من آثار اجتماع الإنسان مع غيره من الظَّلَمَة والفَسَقَة والفَجَرَة؛ فقضية القسوة التي هي من أهم الظواهر السلبية في حياتنا من أوضح هذه المسائل التي يتأثر الإنسان بمَن حوله فيها، وما كُوِّنَت العصابات الإجرامية والجماعات الإرهابية إلا بسبب ذلك، ولو نَظَرنا في تاريخ الشعوب القاسية التي مَلَأت التاريخ قسوةً، كاليونان، والرومان، والأوروبيين، لوجدنا قبول الظواهر السلبية، ومنها مظاهر القسوة التي نستنكرها اليوم، التي ما حصلت إلا بسبب القبول الجماعي، وتلذذ الأصحاب بها، مثل: مشاهدة إلقاء العبيد، أو الأسرى، أو المخالفين في الاعتقاد للأسود المفترسة عند اليونان والرومان، وكذلك رياضات المصارعة حتى الموت وبالأسلحة القاتلة بين العبيد ما ينافي الفطرة الإنسانية.

ترويج الظواهر السلبية

     ولو أردنا أن نعرف كيف كانت العُصبة سببًا في ترويج الظواهر السلبية؟ فلننظر في سلوك إخوة يوسف -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رغم نشأتهم في بيت نُبُوَّة، وحصول النسب الكريم لهم المسلسل بالأنبياء، والنشأة في رحاب بيت المقدس، والتربية الإيمانية العظيمة من الأب الشفيق والأم الحنون التي اختارها الله زوجةً لنبيه يعقوب -عليه السلام-، ورغم كل ذلك كانت عُصبَتهم سببًا لترويج القسوة إلى درجة العزم على قتل أخيهم يوسف -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أو طَرحه أرضًا يهلك فيها جوعًا وعَطَشًا، قال -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} (يوسف:7-9)، ويوسف وَلَدٌ صغير يُوضَع في دلو البئر، لا يملك لهم ضَرًّا، ولم يَحدث لهم منه أذىً، مع خَلقٍ رائع الجمال وخُلُقٍ نادر المثال، وكان أهونهم في القسوة مَن قال: {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} (يوسف:10)، مع القسوة الشديدة في التعامل بمجرد أن غابوا عن نظر أبيهم؛ فهذا يَضربه، وهذا يَشتمه، وهذا يَلطمه فجأة بدون سبب ولا مقدمات!

قسوة مفرطة

     قال ابن كثير -رحمه الله-: «ذَكَر السدي وغيره: أنه لم يَكُن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له، إلا أن غابوا عن عين أبيه وتَوَاروا عنه، ثم شرعوا يؤذونه بالقول مِن شَتمٍ ونحوه، والفِعل مِن ضَربٍ ونحوه، ثم جاؤوا به إلى ذلك الجُبِّ الذي اتفقوا على رميه فيه؛ فرَبَطُوهُ بحبلٍ ودَلُّوه فيه؛ فجعل إذا لجأ إلى واحدٍ منهم لَطَمَه وشَتَمه، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه، ثم قطعوا به الحبلَ مِن نصف المسافة؛ فسقط في الماء فغَمَرَه؛ فصعد إلى صخرة تكون في وسطه، يقال لها: (الراغوفة) فقام فوقها، ولا حول ولا قوة إلا بالله» (تفسير ابن كثير 4/ 374).

قسوة بلا ذنب

     ثم جَرَّدُوه مِن قميصه ليَكذِبوا على أبيه، وتركوه بلا قميصٍ في البئر المظلم، ورجعوا إلى أبيهم عشاءً وتركوه في الليل وحيدا؛ فتخيَّل الطفلَ الصغير في غَيَابَة الجُبِّ وحده في صحراءٍ ليس فيها أحد، وقد أتى عليه الليل المظلم بلا مصابيح، ولا أنيس، ولا أحد، كل هذه القسوة بلا ذنبٍ منه إلا توهمهم ضلال أبيهم بحُبِّه الذي لا يملك مع جمال الخَلْق والخُلُق والصفات الرائعة إلا حب يوسف -عليه السلام-، وإذا كنا نحن لا نملك على بُعد الزمان والمكان والغياب وعدم الرؤية ولا الصحبة إلا حبه كذلك؛ فكيف بوالده الذي يراه وهو بضعة منه؟! وما رَوَّج لهذه القسوة الفظيعة منهم، بل والحسد والغل الذي مَلَأَ قلوبَهم إلا صحبتهم السيئة لبعضهم، حتى آل أمرهم إلى بيعه رقيقًا بدراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين.

نشر العادات القبيحة

     ولو تأملتَ مجتمعك، ما الذي ينشر العادات القبيحة فيه بين الشباب الغض، كالتدخين، وإدمان الخمر والمخدرات، والنظر إلى المواقع الإباحية وإدمانها، وتكوين عصابات الخطف، والسرقة بالإكراه، والاغتصاب، والشذوذ، مع التعذيب والقتل بأبشع الصور؟ لوجدتَ أن الصحبة السيئة هي التي تُزَيِّن لِجَهل الشباب التفاخر بالإجرام، وتكوين العصابات والشِّلَل التي تَغَيَّرَت فيها القيم والموازين إلى استحسان الجريمة، والقسوة والعدوان.

امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

     ويتمثل العلاج في امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بترك الصحبة السيئة ومُلَازَمَة الصحبة الصالحة، قال -تعالى-: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (الفرقان:27-29)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ» (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً» (متفق عليه).

أصدقاء أولادنا

ولابد أن نهتم بأصدقاء أولادنا ذكورًا وإناثًا، شبابًا وبناتًا مِن أجل النظر في صحبتهم، وتشجيعهم على الصحبة الصالحة، والبعد عن الصحبة السيئة، وعدم ترك الأمور حتى تتفاقم فتُدَمَّر الأخلاق بسبب هذه الصحبة السيئة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك