رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عبد المنعم الشحات 31 ديسمبر، 2019 0 تعليق

الطريق إلى ثقافتنا (2)


ما زال الحديث موصولا عن رسالة (في الطريق إلى ثقافتنا) للعلامة محمود شاكر-رحمه الله-، وقد ذكرنا في مقدمة المقال السابق أن بعض الناس يحاول أن يقْصِر معنى المثقَّف على مَن اشتغل بالآداب والفنون، بل على أنواعٍ معينةٍ فيها، وقلنا إنه يجدر بنا في هذا المقام أن نتساءل: هل هذه هي ثقافتنا؟ وإذا لم تكن، فما ثقافتنا؟ وما الذي حال بيننا وبينها؟ وما السبيل للعودة إليها؟ وهذا هو سبب تناولنا لهذه الرسالة القيمة.

العلوم والثقافات

     العلوم عالمية وأما الثقافات فمتعددة بتعدد المِلَل، وبوصفها فرعٍا على مكان الدين والأخلاق واللغة مِن الثقافة، صار مِن المستحيل أن تتطابق الثقافات، وإن أمكن التأثير المتبادَل نتيجة وجود مكوِّنات أخرى للثقافة قابلة للنقل، مع أن هذا يقتضي التمحيص التام عند نقل شيءٍ مِن ثقافات أممٍ أخرى في أنه لا يتعارض مع دين أو خلق أو لغة الأُمَّة الناقلة.

     فقال في بيان ذلك: فالثقافات متعددة بتعدد المِلَل، ومتميزة بتميز الملل، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع مِن الدِّين الذي تدين به لا محالة، فالثقافات المتبايِنة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلًا يفضي إلى الامتزاج البتّة، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئًا إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب؛ أخذَتْه وعَدَّلَته وخلَّصَته مِن الشوائب، وإن استعصى نَبَذتْهُ واطَّرحَتْهُ.

الفرق بين الثقافة والعِلم

     ثم قال منوِّهًا على الفرق بيْن الثقافة والعِلم: وهذا باب واسع جدًّا ليس هذا مكان بيانه، ولكني لا أفارقه حتى أنبهك لشيءٍ مهم جدًّا؛ هو أن تفصِل فصلًا حاسمًا بين ما يُسمَّى ثقافة وبين ما يسمَّى اليوم عِلمًا -أعني العلوم البحتة-؛ لأن لكلٍّ منهما طبيعة مُبايِنة للآخر، فالثقافة مقصورة على أُمَّة واحدة تدين بدينٍ واحدٍ، والعلم مَشاعٌ بيْن خلق الله جميعًا، يشتركون فيه اشتراكًا واحدًا مهما اختلفت الملل والعقائد.

خلاصة القول في كتابات المستشرقين

     لقد عرض الأستاذ محمود شاكر للاستشراق في نشأته -وهو ما سنعرض له في هذا المقال إن شاء الله-، غير أن الذي يعنينا هنا هو أن نسجِّل ما انتهى إليه حول مدى صلاحية كتابات المستشرقين أن تكون مراجع لثقافتنا، فقال: وبيِّنٌ لك الآن بلا خفاء أن كتب الاستشراق ومقالاته ودراساته كلها، مكتوبة أصلًا للمثقف الأوروبي وحده لا لغيره، وأنها كُتبت له لهدفٍ معينٍ، في زمانٍ معينٍ، وبأسلوبٍ معينٍ، لا يُراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوروبي المثقف مِن أن يتحرك في جهةٍ مخالفةٍ للجهة التي يستقبلها زحف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب، وأن تكون له نظرة ثابتة هو مقتنع كل الاقتناع بصحتها، ينظر بها إلى صورةٍ واضحة المعالِم لهذا العالَم العربي وثقافته وحضارته وأهله، وأن يكون قادرًا على خوض ما يخوض فيه مِن الحديث مع مَن سوف يلاقيهم أو يُعاشِرهم مِن المسلمين، وفي عقله وفي قلبه وفي لسانه وفي يقينه وعلى مدِّ يده معلومات وافرة يثق بها، ويطمئن إليها، ويُجادِل عليها دون أن تضعفَ له حمية أو تلين له قناة، أو يتردد في المنافَحة عنها أو يتلجلج، أيًّا كان الموضوع الذي تدفعه المفاوضة إلى الخوض فيه.

أدى ما عليه لبني جلدته

     والاستشراق لا يُذم لأنه فعل كل ذلك؛ لأنه بلا شك قد أدَّى ما عليه لبَنِي جِلدته أحسن أداء وأتَمَّه، ونصَر أهلَ دينه وأخلَص لهم كل الإخلاص، وكافَح في سبيل هدفه بكل سلاح أجاد صقله وتقويمه؛ أما الذي هو حقيقٌ بالذم والمَعَابة فالعاقل الذي يظن نفسه عاقلًا والبصير الذي يظن نفسه بصيرًا ثم لا يكاد عقله يدرك شيئًا هو أبين بيانًا مِن البداءة المسلَّمة، ولا يكاد بصره يرى ما هو أظهر ظهورًا مِن الشمس الساطعة!

يَسَّرَت له ما لم يكن ليتيسر

     فما كَتبه الاستشراق مِن حيث هي كتب أو دراسات مكتوبة للمثقف الأوروبي خصوصا ولهدفٍ بعينه حقيقة باحترام كل أوروبي مثقف أو مَن كان بمنزلة الأوروبي المثقف في الغربة عن العربية والإسلام؛ لأنها يَسَّرَت له ما لم يكن ليتيسر البتة: أن يعرف أشياء كثيرة متنوعة هو مِن عالمها غريب كل الغربة، وأن يرى عالَمها في صورةٍ واضحةٍ مصوَّرة بمهارة، ومصنوعة بأسلوبٍ مقنِعٍ مقبول لا يرفضه عقله، بل لعله يرتضيه كل الرضا.

ثقافة كل أُمَّة

     أما مِن حيث هي كتب أو دراسات علمية جديرة باحترام مثقف غير أوروبي، أي من أبناء العرب والمسلمين خصوصا، أي أبناء لغة العرب وأبناء دين الإسلام، فهذا عندئذٍ موضع نظر؛ لأن الأمر -ولا خيار لي أو لك فيه- يختلف اختلافًا بَيِّنًا حينئذٍ، ويتطلب النظر في أمرين: أمر الكاتب وأمر المكتوب معًا، وهذا يردك لا محالة إلى ما كتبته لك آنفًا في شأن المنهج وما قبل المنهج؛ سواء كان الكاتب عربيًّا أو غير عربي أي: مستشرقًا أوروبيًّا، فثقافة كل أُمَّة مِرآة جامعة في حيزها المحدود كلَّ ما تَشعَّث وتَشتَّت وتَباعَد مِن ثقافة كل فردٍ مِن أبنائها على اختلاف مقاديرهم ومَشارِبهم ومذاهبهم ومَداخِلهم ومَخارِجهم في الحياة، وجوهر هذه المرآة هو اللغة، واللغة والدين -كما أسلفتُ- مُتَداخِلان تَداخُلًا غير قابلٍ للفصل البتّة.

باطلٌ كل البطلان

     فباطلٌ كل البطلان أن يكون في هذه الدنيا -على ما هي عليه- ثقافة يمكن أن تكون ثقافة عالمية، أي: ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعًا، ويمتزجون على اختلاف لغتهم ومِلَلهم ونِحَلهم وأجناسهم وأوطانهم؛ فهذا تدليس كبير، وإنما يُراد بشيوع هذه المقولة بيْن الناس والأمم هدف آخر، يتعلق برفض سيطرة أُمَّة غَالِبة على أمم مغلوبة لتبقى تبعًا لها.

الاستشراق والنهل من ثقافتنا

     الاستشراق، وكيف بدأ بالنهل مِن ثقافتنا ثم صار حربًا عليها؟! هذه القضية احتَلَّت جزءًا كبيرًا مِن كتاب الأستاذ محمود شاكر رسالة في الطريق إلى ثقافتنا -وإن كانت بعيدة بعض الشيء عن موضوع الكتاب-، بل إنها خرجتْ عن علوم اللغة إلى علم فلسفة التاريخ وهو عِلمٌ شريفٌ قَلَّ مَن اعتنى به؛ حيث يهتم دَارِسوه بمحاولة تفسير الظواهر التاريخية على أن للأمم عقلاً جمعيًّا، وإرادة جمعية تتشكل مِن خلال الفرص والتحديات، وتؤثِّر وتتأثر بثقافة تلك الأمم، ومِن هنا عرَّج الأستاذ محمود شاكر على الصراع بيْن الإسلام وبيْن أوروبا الذي تَكرَّر وصفُه لها بالشمالية على خلاف معظم الكُتَّاب الذين عادةً ما يُشيرون إليها بالغرب، رغم أن كون أوروبا في الشمال مِن العالم الإسلامي قد يكون أقرب.

الإخفاق العسكري المتكرر

     لقد ربط الأستاذ محمود شاكر بيْن الإخفاق العسكري المتكرر للغرب أمام الإسلام الذي بلغ ذروته بعودة الحملات الصليبية تجر ذيول الهزيمة رغم بقائها قرنين مِن الزمان في ديار الإسلام، فمِن هنا نشأت فكرة الاستفادة مِن الطاقة الثقافية لدى أُمَّة الإسلام؛ ومِن هنا بدأ الاستشراق، ليكتشف المستشرقون أن بإمكانهم الذهاب أبعد مِن ذلك بحرمان الأمة مِن ثقافتها الأصلية، وتزويدها بثقافةٍ وافدةٍ تنمي تبعيتها للغرب، وتقتل ريادتها.

مراحل الصراع

يقول العلامة محمود شاكر مبيِّنًا مراحل ذلك الصراع: والآن تستطيع أن تتبين أربع مراحل واضحة للصراع الذي دار بين المسيحية الشمالية والإسلام:

المرحلة الأولى

     صراع الغضب لهزيمة المسيحية في أرض الشام ودخول أهلها في الإسلام؛ فبالغضب أمَّلت اختراق دار الإسلام لتسترد ما ضاع، تدفعها بغضاء حيَّة متسامحة، لم تمنع مَلِكًا ولا أميرًا ولا راهبًا أن يمد المسلمين بما يطلبونه مِن كتب علوم الأوائل الإغريق التي كانت تحت يد المسيحية يعلوها التراب، وظل الصراع قائمًا لم يفتر أكثر مِن أربعة قرون.

المرحلة الثانية

     صراع الغضب المتفجر المتدفق مِن قلب أوروبا مشحونًا ببغضاء جاهلية عاتية، عنيفة مكتسِحة، مدمِّرة سفاحة للدماء، سفحت أول ما سفحت دماء أهل دينها مِن رعايا البيزنطية، جاءت تريد هي الأخرى اختراق دار الإسلام، وذلك عهد الحروب الصليبية الذي بقي في الشام قرنين، ثم ارتد خائبًا إلى مَوَاطِنِه في قلب أوروبا.

المرحلة الثالثة

     صراع الغضب المكظوم الذي أورثه اندحار الكتائب الصليبية، مِن تحته بغضاء متوهجة عنيفة، ولكنها مترددة، يكبحها اليأس مِن اختراق دار الإسلام مرة ثالثة بالسلاح وبالحرب؛ فارتدعت لكي تبدأ في إصلاح خلل الحياة المسيحية بالاتكاء الشديد الكامل على علوم دار الإسلام، ولكي تستعد لإخراج المسيحية مِن مأزق ضنكٍ موئسٍ، وظلت على ذلك قرنًا ونصف قرن.

وهذه المراحل الثلاث كانت ترسف في أغلال القرون الوسطى أغلال الجهل والضياع، ولم تصنع هذه المراحل شيئًا ذا بالٍ.

المرحلة الرابعة

     صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينية؛ يزيده اشتعالاً وتوهجًا وقودٌ مِن لهيب البغضاء والحقد الغائر في العظام على الترك -أي المسلمين-، وهم شبحٌ مخيفٌ مُندفِع في قلب أوروبا، يلقي ظله على كل شيء، ويفزع كل كائن حي أو غير حي بالليل وبالنهار، وإذا كانت المراحل الثلاث الأُوَل لم تصنع للمسيحية شيئًا ذا بال، فصراع الغضب المشتعل بلهيب البغضاء والحقد هو وحده الذي صنع لأوروبا كل شيء إلى يومنا هذا.

يقظة شاملة

     صَنَع كل شيء؛ لأنه هو الذي أدَّى بهم إلى يقظةٍ شاملةٍ قامتْ على الإصرار، وعلى المجاهدة والمثابرة على تحصيل العلم، وعلى إصلاح خلل الحياة المسيحية، ولكن لم يكن لها يومئذٍ مِن سبيلٍ ولا مددٍ إلا المدد الكائن في دار الإسلام مِن العلم الحي عند علماء المسلمين، أو العلم المسطَّر في كتب أهل الإسلام، فلم يترددوا؛ وبالجهاد الخارق وبالحماسة المتوقدة وبالصبر الطويل انفكت أغلال القرون الوسطى بغتة عن قلب أوروبا، وانبعثت نهضة العصور الحديثة مستمرة إلى هذا اليوم، ولكون هذه المرحلة ممتدة حتى الآن، فقد أفردها الأستاذ محمود شاكر بالبحث منذ بدايتها هزيمة القسطنطينية مركِّزًا على دور الاستشراق الغزو الثقافي في هذه المواجهة؛ فضلا عن التبشير والاستعمار.

 

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك