الطريق إلى الاستقامة – استقـــامة القـلــب
لا يستقيم العبد حتى يستقيم قلبه؛ «فإن القلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذي تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته، وقهره، وتكتسب منه الاستقامة، والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم، أو يحله، قال النبي -[-: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ»، فهو ملكها، وهي المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده، ونيته، وهو المسؤول عنها كلها؛ لأن كل راع مسؤول عن رعيته؛ لذلك كان الاهتمام بتصحيحه، وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون».
أسباب استقامة القلب
وأعظم الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، وصار القلب قلباً سليماً؛ سليماً من الشرك، يعلم أن الله حقّ، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
السبب الذي لا ينقطع
وسلامة القلب هي السبب الذي لا ينقطع، والعروة التي لا تنفصم يوم القيامة، قال الله -تعالى- {يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: ٨٨ – ٨٩)، والسليم هو السالم، الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له، قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله، ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسَلِم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فسلم في محبة الله، وفي إيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق، وهذه هي حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده.
القلب السليم
القلب السليم هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله -تعالى-؛ إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله، فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام، والاقتداء به وحده، في الأقوال، والأعمال، من أقوال القلب، وهي العقائد، وأقوال اللسان، وهي الخبر عما في القلب، وأعمال القلب، وهي الإرادة، والمحبة، والكراهة، وتوابعها، وأعمال الجوارح؛ فيكون الحاكم عليه في ذلك كله، دقه، وجله، هو ما جاء به الرسول صلى الله -تعالى- عليه وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة، ولا قول، ولا عمل كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (الحجرات: 1)».
السلامة من الشرك
وبناءً على هذه المعاني البديعة يمكننا القول: «الْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الَّذِي سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالشُّحِّ وَالْكِبْرِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةِ، فَسَلِمَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ تُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ تُعَارِضُ خَبَرَهُ، وَمِنْ كُلِّ شَهْوَةٍ تُعَارِضُ أَمْرَهُ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَهُ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ قَاطِعٍ يَقْطَعُ عَنِ اللَّهِ، فَهَذَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ فِي جَنَّةٍ مُعَجَّلَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَفِي جَنَّةٍ فِي الْبَرْزَخِ، وَفِي جَنَّةِ يَوْمِ الْمَعَادِ».
ثمرات سلامة القلب
والناظر في ثمرات سلامة القلب يجدها جميعًا عناوين على استقامة العبد ظاهراً، وباطناً. وقيامُه في طريق الاستقامة، وثباتُه عليه؛ لا يتأتى أبداً حتى يَسْلَمَ له القلب، ويطمئن، فيسكن، ويأنس للحق، وتذهب عنه مخاوفه، فتنبعث جوارحه إلى مرضاة خالقه، تبعاً لكل تلك المعاني الجليلة بقلبه، والتي تنضح عليه، معرفةً، ومحبة ً لله، وأنساً به، وتلذذاً بذكر ربه، ومبادرةً إلى طاعته، وتنفيذ أوامره، وتجافياً عن دار الغرور، وهذا كله – لعمر الله – عنوان على سعادة العبد وفلاحه في الأولى والآخرة.
كيف يستقيم القلب؟
إذا فهمت ما سبق يسهل عليك أن تعلم أن استقامة قلبك تتحقق بشيئين اثنين:
- الأول: أن تتقدم محبة الله -تعالى- في قلب العبد على المحاب جميعها.
- الثاني: تعظيم الأمر والنهي.
وقفات مهمة
ولابد لنا من وقفات نبين فيها هذين الأمرين الخطيرين في حياة العبد، وفي ميعاده.
- الأمر الأول: أن تتقدم محبة الله -تعالى- في قلب العبد على المحاب جميعها.
الأمر الأول الذي يستقيم به القلب، أن تكون محبة الله -تعالى- مُتَقَدِّمةً عنده على المحاب جميعها، فإذا تعارض في قلب المرء حب الله -تعالى- مع حب غيره؛ سبق حب الله -تعالى- وتقدم على حب ما سواه، ولا كلام.
- يعني: إذا تعارض في قلبه - حب النوم، والكسل، والأكل، والشرب، والاستئناس بالخلق، والركون إلى الدعة، وتسويف الأعمال - تعارض ذلك كله وما يحبه الله -تعالى-، من المسارعة إلى الطاعة، والاستغفار، والقيام، والصيام، والذكر، والقيام على مصالح المسلمين، وغير ذلك من أعمال الإيمان، حينئذ يسارع إلى تقديم ما يحبه الله -تعالى- على هذه المحاب، وأما الذي يقول لك: دعني لأنام قليلاً. نؤجل الصوم اليوم. نقوم الليل بعد السهر حتى يضيع الليل، أو يتكلم مع الخلق، ويضيع ورد القرآن، أو يأنس بالناس، ويلهو عن ذكر الله -تعالى-، أو أي عارض يعرض له؛ فهذا الذي لم تتقدم محبة الله -تعالى- في قلبه على المحاب جميعها، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها.
الأمر الأول: تقديم محبة الله -تعالى- على المحاب جميعها
فليس هناك شيء أبداً يزاحم محبة الله -تعالى- في قلب عبده، لا وقته يزاحم محبة الله، ولا ماله، ولا نفسه، ولا ولده، ولا زوجته ولا ميله إلى الراحة والسكون، والدعة، ولا غير ذلك يمكن أن يتقدم في قلبه، فإن تقدم شيء من ذلك دل على عدم استقامة القلب، وهذا القلب لا ينفع صاحبه {يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء: (٨٨ - ٨٩).
الواجب على العبد
فالواجب على العبد أن يجاهد نفسه على تقديم محاب الله دوماً، لا يستكثر شيئًا على رحمة الله -تعالى-، ولا على فضل الله -تعالى- وجوده، فإذا ما رأى المولى -سبحانه وتعالى- من عبده الإقبال، والصدق في هذا الإقبال؛ فإن الله -تعالى- يفتح عليه، ويكرمه -سبحانه-، ويهبه -تعالى- من رحمته، ويجود عليه من بركاته، ويلهمه -جلّ ثناؤه- حينئذ ذكره، ويحفظه، ويثبته -تبارك وتعالى- على الاستقامة بعد ذلك.
سنة الله -تعالى
وهنا ينبغي للعبد أن يعلم: أن سنة الله -تعالى- فيمن قدم ما يهواه، وتهواه نفسه من مال، وأهل، وولد، وسكون، وراحة، وشهوات، وغير ذلك، يقدمها ويؤخر طاعة الله -تعالى-، أو يسوِّفها، أو يلغيها من أصلها، سنة الله -تعالى- فيمن هذا شأنه أن ينغص عليه محابه، ولا ينال شيئا منها إلا بتكدر وتنغيص؛ لإيثاره هواه، وهوى من يعظمه من الخلق، أو يحبه على محبة الله -تعالى-، وهو ملحوظ مشاهد في حال المؤمن اليوم الذي يراقب حاله، يرى أنه عندما يقدم شيئا على محبة الله قدم النوم مثلاً تجده لا ينام، أو يقدم أكله، وشربه، أو يقدم إيناسه بالناس، تنقلب هذه الأمور عليه تنغيصا وتكديرا.
من أحب شيئا سوى الله عُذِّب به
وقد قضى الله -تعالى- قضاء لا يرد، ولا يدفع، أن من أحب شيئا سواه عُذِّب به ولا بد، انظر إليك إذا أحببت شيئا غير الله -تعالى-، كان سبب تعذيبك في الدنيا، قبل تعذيب الآخرة، من أحب المال كان سبب تعذيبه في الدنيا، أو أحب الولد كان سبب نكده، وتنغيصه، وتعذيبه، ومن أحب شهواته لا ينالها إلا بتنغيص، وتكدير، ومصائب، فمن أحب شيئا سواه عذب به ولا بد، وأن من خاف غيره سلط عليه، وأن من اشتغل بشيء
غيره كان شؤماً عليه.
والمرء يرى أثر ذلك في تصرفاته، ومن أرضى غيره بسخطه -سبحانه وتعالى-، أسخطه الله عليه، ولابد، واحفظ هذه الجمل، وانظر نفسك حال تقديمك شيئا من هذه الأمور على الله -تعالى-، وانظر العاقبة التي تنتظرك، من الشؤم، وعدم المباركة، والتنغيص، وضياع الوقت، والمال، والجهد؛ حتى إنك لتندم حينئذ أنك فعلت شيئا من ذلك، أو قدمته على الله -تعالى-، فلا يستقيم قلب العبد، الساعي إلى ربه، السالك إليه، حتى يكون ما يحبه الله ورسوله أحب الأشياء عنده، فلا تغلبه نفسه، أو تميل به الأهواء، أو يتسلط عليه الشيطان، فيحرفه عن صراط الله المستقيم.
لاتوجد تعليقات