رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 17 ديسمبر، 2020 0 تعليق

الضَوابِطُ الشَّرعِيَةُ في الدِّفاعِ عَنِ النَبيِّ – صلى الله عليه وسلم – الانتصار للنبي تكليف شرعي وواجب ديني بحسب الاستطاعة الشرعية الحلقة الرابعة


المطلوب من العباد في كل وقت هو بناء الدعوة على أصول جامعة وكليات عامة، وتأسيس الأعمال على الإخلاص والاتباع، والنهوض بأعباء الدين ببصيرة وعلو همة، وهذا المطلوب هو عنوان الكرامة والظفر ورمز العزة والفخر؛ لاسيما إذا تعلّق الأمر بنصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره؛ إذ النُّصرة حقيقة جامعة لكل الوسائل والأسباب والأحوال المتاحة التي بها يتحقق الانتصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - والدفاع عنه، وذلك بطاعة أمره، والسعي إلى نصرته وتعزيره، والجهاد في سبيل دينه والذب عنه، وبيان ما أُرسل به من الحق، وهي  علامةُ الحب الواجب, ودليلُ الوفاء الصادق.

المبحث الثاني: ضوابط الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم - وأشير هنا إلى أهم هذه الضوابط، وهي:

- الضابط الأول: الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يناط بالاستطاعة الشّرعية؛ إذ لا واجب مع العجز.

قد تقرر في الشريعة أن التكاليف الشرعية مشروطة بشروط، من أهمها: توفر القدرة والاستطاعة؛ فما أوجبته الشريعة من الأحكام، وما شرعته من الواجبات، وما جعلته شرطًا أو ركنًا فيها، فهو منوط بالاستطاعة؛ فلا تكليف مع العجز.

الاستطاعة الشرعية

     والمراد من الاستطاعة التي تكون شرطًا في التكليف، هي الاستطاعة الشرعية التي يحصل بها الفعل من غير مضرّة أو مفسدة؛ لأن الشريعة لا تنظر إلى إمكان الفعل فحسب، بل إلى إمكان الفعل مع لوازمه؛ فإنْ لم يمكن للمكلف أن يفعل الفعل إلا مع مضرّة راجحة، فهو عندئذ لا يكون على الحقيقة قادرًا ولا مستطيعًا؛ فقد راعت الأحكام الشرعية التمكن من الفعل، وكون الفعل خاليًا من المفسدة الراجحة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فالشرع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية، إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية».

     فعلى هذا التأصيل، لا يكون الجهاد واجبًا، إذا كان بالإمكان الدفع والمقاتلة لكن مع المفسدة الراجحة؛ إذ لا يجب الجهاد إلا بالتمكن من القتال أولًا، ورجحان مصلحة القتال على عدمه ثانيًا، وقد كان المسلمون يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، ويستأذنونه بالدفع مع إمكان القتال، فيقول لهم صلى الله عليه وسلم اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال.

الانتصار للنبي تكليف شرعي

     فالانتصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - تكليف شرعي وواجب ديني يناط بالاستطاعة الشرعيّة، فقد يسوغ للعبد أن يكتمه تارة ويظهره تارة أخرى، بحسب حال القوة والضعف، وبحسب استطاعته الشرعية ورجحان المصلحة على المفسدة، وقد جاء تأصيل هذا الضابط في القرآن الكريم، قال -تعالى-: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر: 28).

فهذا الرجل المؤمن قد كتم إيمانه، لكنه لم يكتم نصيحته وبيانه للحق؛ إذ كان قادرًا عليه؛ فكتم إيمانه وهجرته، ولم يكتم نصرته، كما كان النّجاشي - رضي الله عنه - يكتم إيمانه وهجرته، ويظهر نصرته للمؤمنين الذين هاجروا إليه.

نصرة القلب

     والعبد قد يظهر إيمانه ولكن قد يكون عاجزاً عن نصرة أهل الإيمان بالقول أو باليد؛ فيكتفي بنصرة القلب وإنكاره، وهذا من أضعف الإيمان، ومثال هذا النوع من الكتمان ما جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضل في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم ».

    فابن مسعود - رضي الله عنه - كان عاجزًا عن طرح الأذى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكتم نصرته لعجزه، قال النووي -رحمه الله- عند شرح قوله: «لو كانت لي منعة طرحته»أي: لو كان لي قوة تمنع أذاهم، أو كان لي عشيرة بمكة تمنعني.  فاعتذر لكتمانه أنه كان هذليّاً حليفاً وكان حلفاؤه إذ ذاك كفاراً.

ولما وضع عقبة بن أبي معيط رداءه في عنق النبي - صلى الله عليه وسلم - فخنقه خنقًا شديدًا جاء أبو بكر - رضي الله عنه - فدفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ }.

فرق بين الكذب والكتمان

     فأبو بكر - رضي الله عنه - أظهر النصرة لقدرته، وابن مسعود - رضي الله عنه - كتمها لعجزه، وفي موضع آخر، صدع ابن مسعود بتلاوة القرآن أمام الملأ حتى ضرب، فهذا يدل على أن أفعال الصحابة كانت تدور مع مقاصد الدين ومصالح الشرع لا مع الرأي والهوى.

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وفرق بين الكذب وبين الكتمان: فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن؛ حيث يعذره الله في الإظهار كمؤمن آل فرعون، وأما الذي يتكلم بالكفر فلا يعذره، إلا إذا أكره، والمنافق الكذاب لا يعذر بحال، ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب. ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه، وهو مع هذا مؤمن عندهم، يحبونه ويكرمونه؛ لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح وإرادة الخير بهم، وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم، كما كان يوسف الصديق -عليه السلام- يسير في أهل مصر وكانوا كفارا، وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، ومع هذا كان يعظم موسى ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ}.

نصرة النبي بحسب القدرة

     وإذا كانت النُّصرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُنيطت في جميع أنواعها بالقدرة - والقدرة لا تكون شرعيةً إلا بإمكان الفعل مع رجحان المصلحة- فإن أصحاب النبي وأنصاره بمكة كانوا يرون أنواع الاعتداء والأذى يصيب نبيهم، وهم مع ذلك كانوا عاجزين عن نصرته بالدفع والفعل، واكتفوا بأدنى مراتب الإنكار؛ إذ النصرة والإعانة والمدافعة أحكام مقيدة بالشرع ؛ ففَعَل الصحابة -رضي الله عنهم- في كل وقت ما هو واجب ذلك الوقت، فامتثلوا أوامر الله -تعالى- بالصبر، كما امثلوا أوامره بالدفع؛ فإن الوقت إمّا أن يكون وقت سعة واختيار، وإمّا أنْ يكون وقت ضيق واضطرار، والحال إمّا أن يكون حال قوة وتمكين، وإمّا أنْ يكون حال عجز واستضعاف، والعبد يفعل ما أمر به في كل وقت بحسب الإمكان، فتكون ثمرة الفهم الصحيح للاستطاعة، هي ملازمة الطاعة في سائر الأحوال، والاستقامة على محض العبودية، والقيام بوظيفة الوقت، لذلك كان غذاء الصحابة الروحي ومعيشتهم التربوية - بمكة- على هذه المعاني العظيمة التي دلت عليها آية من سورة مكية، كما قال -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (التغابن: 16)؛ فتأمل تقديم الأمر بالتقوى بقيد الاستطاعة على الأمر بالسمع والطاعة والإنفاق، كما قال قتادة -رحمه الله- في تفسير الآية: «فيما استطعت يا ابن آدم، عليها بايع رسول الله على السمع والطاعة فيما استطعتم».

طائفة قائمة على الحق

     ويشير قتادة -رحمه الله- إلى حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: «كنّا إذا بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، يقول لنا: فيما استطعتم». لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في أخر عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة لاتزال طائفة من هذه الامة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام ؛ فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين».

  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك