الضوابط الوقفية- هل الإيثارُ بالطاعات مكروه؟
هل الإيثارُ بالقُرَب مكروه؟ تطبيقُ هذه القاعدة على مجال العمل الخيريّ يكاد يكون له نتيجةٌ متّفق عليها.
معنى القاعدة:
الإيثار: «أنْ يقدِّم الإنسان غيرَه على نفسِه في النَّفع له والدَّفْع عنه، وهو النهاية في الأُخُوَّة».
القُرَب: كلُّ ما يُعبَدُ الله به من الأعمال الصالحة، ووسائلها؛ ممّا يأتيه الإنسانُ عادةً طلباً للثواب في الآخرة.
من أدلّة القاعدة
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقَدَح فشرب، وعن يمينه غلام هو أحدث القوم، والأشياخُ عن يساره، قال: «يا غلام، أتأذن لي أن أُعطي الأشياخ؟». فقال: ما كنتُ لأُوْثِرَ بنصيبي منك أحداً يا رسول الله. فأعطاه إيّاه.
قولُه -تعالى-: {فَاسْتَبِقُوْا الخَيْرَاتِ}(المائدة: 48).
قولُه -تعالى-: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(المطففين: 26)؛ فالآية في سياق الجزاء الأخرويّ ونعيم الجنّة.
وقوله -تعالى-: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}(الحديد: 21).
مضمون القاعدة
ويدلُّ على مضمون القاعدة عمومات الآيات والأحاديث والآثار التي تحثُّ على السَّبق إلى الخير، والتنافس فيه، إلّا أنّها ليست دلالةً نصيَّةً قطعيّة، بل دلالة ظاهر؛ لذلك وقع في مضمون هذه القاعدة وتطبيقاتها خلافٌ معروف سبقت الإشارة إليه.
قال وُهَيْب بن الورد: «إن استطعتَ ألا يسبقكَ إلى الله أحدٌ؛ فافعل».
أقوال أهل العلم في حُكم الإيثار بالقُرَب:
قال الزركشي: «الإيثار ضربان: الأول: أنْ يكون فيما للنّفس فيه حظٌّ، فهو مطلوبٌ، كالمضطر يؤثر بطعامه غيرَه إذا كان ذلك الآخر مسلماً، لقوله -تعالى-: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر: 9).
- الثاني: في القُرُبَات، كمن يؤثر بالصَّفِّ الأوّل لغيرِه ويتأخّر هو، أو يؤثر بقربه من الإمام في الصلاة ونحوه، وظاهر كلام الشيخ أبي محمد السابق أنّه حرام، وكذا قال الإمام في باب التيمم: لو دخل الوقت ومعه ما يتوضأ به فوهبه لغيره ليتوضأ به لا يجوز؛ لأنّ الإيثار إنما يكون فيما يتعلق بالنفوس والمُهَج، لا فيما يتعلّق بالقُرَب والعبادات».
وقد علَّل الشيخ العلّامة العزّ بن عبد السّلام هذا المعنى بعد إيراد بعض أمثلته، فقال: «لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء المتيمِّم، ولا بالصف الأول، ولا بستر العورة في الصلاة؛ لأنّ الغرض بالعبادات التعظيم والإجلال، فمن آثَرَ به فقد ترك إجلالَ الإله وتعظيمَه؛ فيصير بمثابة من أمرَه سيِّدُه بأمرٍ، فتركه وقال لغيره: قُم به! فإنّ هذا يُستقبَح عند النّاس بتباعُدِه من إجلال الآمِرِ وقُربِه».
وقال السيوطيُّ -رحمه الله- مستدركًا على الزركشي إطلاقَه أنّ الإيثار في القُرَب حرام-: «قلت: ليس كذلك، بل الإيثار إنْ أدّى إلى ترك واجبٍ فهو حرام، كالماء وساتر العورة، والمكان في جماعة لا يمكن أن يصلي فيه أكثر من واحد ولا تنتهي النَّوْبة لآخرهم إلا بعد الوقت، وأشباه ذلك، وإنْ أدّى إلى ترك سُنة أو ارتكاب مكروهٍ، فمكروه، أو لارتكاب خلافِ الأَوْلى ممّا ليس فيه نهيٌ مخصوصٌ، فخِلافُ الأَوْلى، وبهذا يرتفع الخلاف». وقال ابن القيِّم -رحمه الله-:
«وكلُّ سببٍ يعود عليك بصلاحٍ قلبك ووقتك وحالك مع الله، فلا تؤثر به أحداً، فإنْ آثرت به فإنما تُؤْثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم!
أحوال أكثر الخلق
وتأمَّلْ أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرُّهُم إيثارُهم له ولا ينفعُهُم، وأيُّ جهالةٍ وسَفَهٍ فوق هذا؟!
ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقُرَب، وقالوا: إنّه مكروهٌ أو حرامٌ، كمَنْ يؤثر بالصف الأول غيرَه ويتأخّر هو، أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيرَه بالأذان والإقامة، أو يؤثره بعلم يحرمُه نفسَه ويرفعَه عليه فيفوز به دونه، وتكلّموا في إيثار عائشة -رضي الله عنها- لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله في حجرتها، وأجابوا عنه: بأنّ الميِّت ينقطعُ عملُه بموتِه وبقُرَبِه فلا يُتَصَوَّرُ في حقّه الإيثار بالقُرَب بعد الموت؛ إذ لا تقرُّبَ في حقّ الميت. وإنّما هذا إيثارٌ بمسكن شريف فاضل لمن هو أَوْلى به منها؛ فالإيثار به قُرْبَة إلى الله -عز وجل- للمُؤْثِر، والله أعلم».
يريدُ -رحمه الله- أنّ وجودَ الإنسانِ مدفوناً في مكانٍ ما بعد الموت مهما كان المكان فاضلاً وشريفاً ليس من عمل ذلك الإنسان، ولا يُعدُّ قُربةً في حقِّه، إذا لا سبيل للميِّت؛ لأن يتقرَّب إلى الله بشيء بعد الموت، إلّا ما جاء به النّصُّ من أنّه يستمر أجرُه؛ وعليه فلا تكون عائشةُ -رضي الله عنها- قد آثرَت عُمَرَ رضي الله عنه بقُربَة، وإنّما تقرَّبت هي إلى الله في حياتها بتطييبِ نفسِه، وهو مدبرٌ عن الدُّنيا بالتنازُل له عن المكان التي كانت تتمنّاه لنفسها، فرأت أنّ هذا العظيمَ من عظماء الإسلام أَوْلى بقُرْب صاحبَيْه منها، وإن كان أحدُهُما زوجَهَا وهو سيّد الخلق، والآخَر أباها رضي الله عنه .
إلّا أنّ الإمام ابن القيّم -رحمه الله- أبدى في موضعٍ آخر نظرةً أخرى في هذه المسألة، فقال: «ومنها: كمالُ محبة الصِّدِّيق له، وقصدُه التقربَ إليه، والتحبب بكل ما يمكنه؛ ولهذا ناشد المغيرة أن يدَعَه هو يُبشِّر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف، ليكون هو الذي بشَّره وفرَّحه بذلك.
وهذا يدلُّ على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثِرَهُ بقُرْبَةٍ من القُرَبِ، وأنه يجوز للرجل أن يُؤثر بها أخاه، وقول مَن قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقُرَبِ لا يصحّ.
وقد آثرتْ عائشةُ عمرَ بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم ، وسألها عمرُ ذلك، فلم تكره له السؤال، ولا لها البذلَ، وعلى هذا، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول، لم يُكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره.
سيرةَ الصحابة
ومَن تأمل سيرةَ الصحابة، وجدهم غيرَ كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرمٌ وسخاء، وإيثارٌ على النفس بما هو أعظمُ محبوباتها تفريحاً لأخيه المسلم، وتعظيماً لقدره، وإجابة له إلى ما سأله، وترغيباً له في الخير، وقد يكون ثواب كل واحدة من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القُرْبة، فيكون المؤثِر بها ممن تاجر؛ فبذل قُرْبةً وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يُؤثر صاحب الماءِ بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بُد مِن تيمم أحدهما، فآثر أخاه، وحاز فضيلة الإيثار، وفضيلة الطُّهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتاب ولا سُنَّة، ولا مكارم أخلاق».
قلت: أمّا مسألة إيثار عائشة بمحلِّ دفنها فقد أجاب هو عنه -رحمه الله- كما سبق نقلُه، ويبقى أنّ كلامَه -رحمه الله- صالحٌ للجوابِ على من قال بإطلاق تحريم الإيثار بالقُرَب؛ فالتحريمُ لاشكّ أنّه زَعْمٌ كبير، لا يتوفّر لإسناده دليلٌ تطمئنّ إليه النّفس، ويطيبُ به القلب.
لكنّي لا أحسبُ أنّ أحداً يتردَّد في كون الإيثار بالقُرَب على خلاف الأصل، لا يُؤتى إلّا لمصلحةٍ يُتَيَقَّنُ رجحانُها، ويتّضح عموم نفعها، ولاسيما إذا كان الإيثار سبباً في فتح باب خيرٍ مُتَعَدٍّ إلى الغير، في حين تبقى تلك القُربَة لو لم يُؤْثَر بها الغيرُ قاصرةَ النّفع على فاعلها، إلى غير ذلك من الأسباب والأوصاف التي تكون سبباً في ترجيح بعض الأعمال المفضولة على الأعمال الفاضلة.
وبهذا القدر نكتفي، والله تعالى أعلم.
من تطبيقات
في حلقات القرآن، من آداب التلاوة والدَّرْس ألا يسمح المدرِّس للطّالب السّابق أن يُؤْثِرَ صاحب الدَّور المتأخِّر بنَوْبَتِه في القراءة؛ لأنّ قراءة القرآن قُربة، والإيثار بالقُرَب مكروه.
إذا سمع الغنيُّ ذو المالِ عن مشروعٍ أعلنت عنه مؤسسة خيريّة، وكان مجالُه إنفاقاً واجبًا على مثله، من إغاثة منكوبين يوشكون على فقد حياتهم، ويُحتاج إلى إنقاذهم بإطعامهم وكسوتهم وإسكانِهِم، فيحرم عليه التخلُّف، ويُكره له أن يترك غيره يسبقُه إلى أداء هذا الواجب؛ لأنّه إن فعل كان قد آثرَه على نفسه في الثواب وحظّ الآخرة، وهذا مكروه، لكنّه إن كان عاجزًا عن أداء الواجب فدلّ غيرَه عليه، فقد أحسنَ جدًّا، وله الأجر العظيم على دَلالته وفتحه لباب الخير لغيره.
صدقة الفطر عن أهل البيت الواحد، يدفعها واحدٌ منهم ممّن تلزمُه نفقةُ الباقين لو فُرض أنّه المُوسِرُ الوحيدُ فيهم، فإن وُجد أكثر من موسر من جَدٍّ وأبٍ وولدٍ، فيُكره للقادر على المبادرة منهم أن يُؤثر غيرَه، بل المستحبُّ المبادرة إلى الغير، لأنّها قُرْبَة.
لاتوجد تعليقات