الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – يُقدَّم الواقف وذريته في الولاية على الوقف
باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه؛ ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثم من القواعد لفقهية الكلية، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف، وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضوابط المتعلّقة بالولاية على الوقف، ومع الضابط الأول وهو: يُقدَّم الواقف وذريته في الولاية على الوقف.
حفظ المال وصيانته عن الضّياع من الواجبات الشرعيّة، فالإنسان مسؤولٌ عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ والتبذير محرّم، والسَّفَه يوجب -عند الأكثرين- الحَجْر على الموصوف به، كلُّ هذه حقائق شرعيّةٌ عليها جمهرةٌ من الأدلّة، تجعلنا نقطع بأنّ حفظ المال واجب، ومن هنا كان نَصْب متولٍّ على الوقف من الواجبات، يقوم بنظارته بنفسه أو بغيره، ويتولّى رعايته وتنفيذ شروطه، ويخاصمُ له وعنه إذا ما استُحقّ له أو عليه شيء.
الشروط الصحيحة
قال شيخ الإسلام:»... وكذلك الأموال الموقوفة، على ولاة الأمر من الإمام والحاكم ونحوه إجراؤها على الشروط الصحيحة الموافقة لكتاب الله، وإقامة العمال على ما ليس عليه عامل من جهة الناظر، والعامل في عرف الشرع يدخل فيه الذي يسمى ناظرًا، ويدخل فيه غير النّاظر، لقبض المال ممّن هو عليه، وصرفه ودفعه إلى من هو له؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}... وقد يكون واجبًا إذا لم تتمّ مصلحةُ قبض المال وصرفه إلا به، فإنّ ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب».
ضوابط العين الموقوفة
وقد تقدّم في ضوابط العين الموقوفة بعض الأقوال المرجوحة، من كون الوقف لا يتمّ حتى يسلّمه الواقف إلى متولٍّ غيره، وقولٍ آخر بكون الوقف لا يزول عن ملك الواقف أصلاً، وآخر بأنّه إذا كان على معيّن فإنّه ينتقل إلى ملكه، وكلّ هذه الأقوال تقتضي أن الوقف لا بدّ فيه من أن ترتفع يد الواقف عنه تماماً، كالعتق، فإنّه يزول به الملك وتنقطع به الولاية، والواقع أنّ الاتفاق حاصلٌ على أنّ الواقف إذا اشترطَ النّظارة لغيره فشرطُه صحيحٌ لازمٌ، فكيف يكون هو مانح هذه الولاية لغيره ولا يملك استبقاءها لنفسه؟!
قال المرغيناني: «المتولّي إنّما يستفيد الولاية من جهته بشرطه، فيستحيل ألا يكون له الولاية وغيره يستفيد الولاية منه! ولأنّه أقرب الناس إلى هذا الوقف، فيكون أولى بولايته، كمن اتّخذ مسجدًا يكون أولى بعمارته ونصب المؤذّن فيه، وكمن أعتق عبدًا، كان الولاء له؛ لأنه أقرب الناس إليه».
وقال ابن القيّم رحمه الله -في الجواب عن ذلك-: «إذا وقف وَقْفًا وجعل النّظر فيه لنفسه مدّة حياته، ثم من بعده لغيره، صحّ ذلك عند الجمهور، وهو اتفاقٌ من الصحابة؛ فإن عمر - رضي الله عنه - كان يلي صَدَقته، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما أشار على عمر بوقف أرضه لم يقل له: لا يصحّ ذلك حتى تخرجها عن يدك ولا تلي نظرها.
صحة الوقف
وأيّ غرض للشارع في ذلك؟ وأي مصلحة للواقف أو الموقوف عليه؟ بل المصلحة خلاف ذلك؛ لأنه أخبَرُ بماله، وأقْوَمُ بعمارته ومصالحه وحفظه من الغريب الذي ليست خبرته وشفقته كخبرة صاحبه وشفقته، ويكفي في صحة الوقف إخراجه عن ملكه، وثبوت نظره ويده عليه كثبوت نظر الأجنبيّ ويده، ولا سيما إنْ كان متبرّعًا، فأيّ مصلحة في أن يقال له: لا يصحّ وقفك حتى تجعله في يد مَنْ لست على ثقةٍ من حفظه والقيام بمصالحه وإخراج نظرك عنه؟». وقوله -رحمه الله-: «وثبوت نظره ويده عليه كثبوت نظر الأجنبيّ ويده»: يعني في الجواز، وأنّه لا ينبغي أن يمنع مانعٌ من تولّي الواقف لوقفه، كما أنّه لا مانع -بالاتفاق- من أن يتولّى ذلك أجنبيٌّ، وهذا تنزُّلٌ؛ لأنّ غرضه يتجاوز تقرير الجواز إلى تقرير الأولويّة من وجهين:
- الأوّل: كون الواقف أخبر بماله، وأحرص عليه، وأدرى بالقيام على مصالحه.
- الثاني: أنّ الغالب أن يكون الواقف متبرّعًا بقيامه بالنّظارة، لأنّه لن يحرص على استيفاء أجرٍ من مالٍ أخرجه عن ملكه لله، باختياره وإرادته.
وقد بيّن الإمام الشافعيّ -رحمه الله- أنّ هذا المعنى بالفعل كان ملحوظًا عند السّلف، وأنّ الشائع فيهم أنّ الواقف كان يلي صدقته كما فعل عمر - رضي الله عنه -، ثمّ يجعل النّظارة بعد ذلك لراشدٍ من ذريته.
قال -رحمه الله-: «...ولقد حفظنا الصّدقات عن عدد كثيرٍ من المهاجرين والأنصار، لقد حكى لي عددٌ كثيرٌ من أولادهم وأهليهم أنّهم لم يزالوا يَلُونَ صدقاتهم حتى ماتوا، ينقل ذلك العامّة منهم عن العامّة لا يختلفون فيه، وإنّ أكثر ما عندنا بالمدينة ومكّة من الصّدقات لَكَمَا وصَفْتُ، لم يزل يتصدّق بها المسلمون من السّلف يَلُونَها حتى ماتوا، وأَنَّ نقل الحديث فيها كالتكلّف...».
والحقّ أنّ قوّة القول بتقديم الواقف في النّظّارة، ثمّ الأرشد والأصلح من ذرّيّته، قوّةٌ ظاهرةٌ راجحة، ويشهد لذلك المأثور من عمل السّلف، وكذلك يشهد له العقل والعادة، والله أعلم.
الضابط الثالث
ترك الواقف خيار الصَّرْف للمتولّي جائزٌ
- معنى الضابط: الواقف إذا أراد أن يترك صرف غلّة الوقف لاجتهاد المتولّي أو النّاظر، ويفوّض ذلك إليهما، فإنّ ذلك صحيحٌ جائز، قال الخطيب الشربيني: «ولا يتصرّف النّاظرُ إلا على وجهِ النَّظَر والاحتياط، لأنّه ينظُر في مصالح الغير، فأشبه وليّ اليتيم، (ووظيفته) -عند الإطلاق، أو تفويض جميع أمورِ (العمارة، والإجارة، وتحصيل الغلّة، وقسمتها) على مستحقّيها، وحفظ الأصول والغلّات- على الاحتياط؛ لأنّه المعهود في مثله... «فإنْ فُوِّضَ إليه بعضُ هذه الأمور لم يتَعَدَّه»، اتّباعاً للشّرط، كالوكيل».
وقال النّووي: «ويجوزُ أنْ ينصبَ الواقفُ متولِّيًا لبعضِ الأمورِ دون بعضٍ، بأنْ يجعل إلى واحدٍ العمارة، وتحصيل الغلّة، وإلى آخر حفظها، وقسمتها على المستحقّين، أو يشرُط لواحدٍ الحفظ، واليد، ولآخر التصرف، ولو فوّض إلى اثنين، لم يستقلّ أحدُهما بالتصرُّف».
المصارف تتفاوت في الحاجة
وقال السّرخسي: «قال: (فإنْ جعلَ الرأيَ في توزيعِ الغلّة على الفقراء أو القرابة في الزيادة والنقصان إلى القيِّم، جاز ذلك)؛ لأنّ رأيَ القيّم قائمٌ مقامَ رأيِه، وكان له في ذلك التفضيل عند الوقف رأياً، فيجوزُ أنْ يشترط ذلك في القيّم بعدَه، وهذا؛ لأنّ المصارف تتفاوت في الحاجة باختلاف الأوقات والأمكنة، فمقصودُه أنْ تكون الغلّة مصروفةً إلى المحتاجين في كلّ وقت، وإنّما يتحقّق ذلك بالزيادة والنقصان بحسب حاجتهم، والصرف إلى البعض دون البعض إذا استغنى البعضُ عنه؛ فلهذا جُوِّز له أن يجعل الرأيَ في ذلك إلى القيّم».
جواز توزيعِ الغلّة إلى القيّم على الوَقْف
وقال ابن السِّمناني: «وإذا جعلَ الرأيَ في توزيعِ الغلّة إلى القيّم على الوَقْف جازَ، وله أن يفضّل ويسوّي، لأنّ أصلَ الحقّ يجوز أنْ يقفَ على شرطِه، فكذلك القَدْرُ»، وقد يُرجَع إلى رأي النّاظرِ أحياناً باعتباره صاحب الولاية الخاصّة، ولو لم يُعرَف تفويض الواقف له من عدمه، في حال فقدان شرط الواقف في هيئة الصَّرْف ومواعيده ونحو ذلك.
فقد سُئِل ابن حجر الهيتمي: «هل يُصرف لنحو المدرِّس جميعُ غلّة السَّنَة أوّلَها؟ أو لا يدفع له إلا ما باشَرَه؟ كما إذا أجّر الناظر الوقفَ مدّةً طويلةً، فإنّه لا يدفَع الغلّة لأهل الوقف دفعةً، بل كلّما مضت مدةٌ دفع إليهِم بقَدْرِها.
فأجاب بقوله: إنْ عُلِم شرطُ الواقفِ في ذلك فواضحٌ، وإلا صُرِفَت الغلّة على ما جرت به عادة الأوّلين المطّردةُ المعلومةُ من غير نكيرٍ، فإنْ كان الوقف حادثا، اعتُبِرت العادةُ المقارنةُ له زمنَ الواقف، فإنّها حينئذ بمنزلةِ شرطِه، كما قاله العز بن عبد السلام، فيُنْزَلُ وقفُه عليها، فإنْ لم تطّرد العادةُ أو جُهِلَت، رُجِعَ في ذلك لرأيِ النّاظر واجتهادِه...».
وفي الجملة فجواز مثل هذا التّفويض وصحّته لا يوجد ما يمنع منه، وعامّة الأصول والفروع في أبواب النّيابات تدلُّ عليه وتشهد له، إلّا أن تلوح في بعض الأزمان والأماكن عوارض أخرى وموانع، من شيوع التساهُل والتخفُّف من قيود الشرع والأخلاق، فإنّ إعمال سدّ الذّرائع ببيان الواقف لكلّ مُرادَاته بأوضَح عبارةٍ يكون هو المتعيّن، وإلّا أفضى التفريط والتّساهل وفسادُ الذّمم إلى اندثار الأوقاف وضياع الحقوق، ولا مفرّج إلّا الله.
لاتوجد تعليقات