الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – كلُّ شرطٍ يخالف أصول الشريعة باطل
باب الوقف من الأبواب المهمة التي من الأهمية تقرير ضوابطه؛ ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثم من القواعد الفقهية الكلية، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف، واليوم مع الضوابط المتعلقة بشرط الواقف والضابط الثاني وهو: كلُّ شرطٍ يخالف أصول الشريعة باطل.
ذكر هذا الضّابط من أجل التأكيد على بطلان قسمٍ من أقسامِ الشّروط المذكورة في الضابط السابق (شرط الواقف كنصّ الشّارع)، وقد سبقت الإشارة فيه إلى أنّ بعض شروط الواقفين باطلة، واشتراطُها ممنوعٌ لمخالفتها للشّرع، والواقع أنّ بطلان الشرط المخالف للشّرع ليس خاصًّا بشروط الواقفين، بل هو حكمٌ جارٍ على كلّ شرطٍ في كلّ عقد وتصرُّف.
التشديد في الشروط الباطلة
والتشديد في شأن الشروط الباطلة أظهر في عقود المعاوضات، لأنّ الشرط الباطل فيها فيه إضرارٌ حتميٌّ بالحقوق، وعلى الرغم من أنّ الخطب أيسر في عقود التبرّعات عند عامّة الفقهاء، ومنها الوقف، إلّا أنّ الفقهاء حكموا على أنواع من شروط الواقفين بالبطلان، تارةً بإبطال الشرط فقط، وتارة بجعل بطلان الشرط عائداً على الوقف نفسه بالبطلان.
معنى الضّابط
كلُّ شرطٍ خارجٍ عن قواعد الشريعة العامّة، مفضياً إلى مناقضتها، معاكساً لعادة التشريع المستقرّة، أو ينشأ عن تنفيذه تحكُّمٌ عبثيٌّ لا مصلحة فيه لأحد، فلا يصحّ اشتراطُه، في «ترتيب الصُّنُوف» المادة: «يُلغى كلُّ شرطٍ مخلٍّ وليس فيه مصلحةٌ أو فائدةٌ للوقف»، وفي «قانون العدل والإنصاف»: «للقاضي مخالفة شرط الواقف إن كان مخالفاً للشرع، فإن شرَطَ الولاية لنفسه على وقفه أو شرطها لغيره، واشترط أن لا ينزعه من يده قاضٍ ولا سلطان، فللقاضي مخالفة شرطه، ونزع الوقف من يده أو من يد النّاظر المشروط له إن كان غير مأمون عليه، أو غير أهل للقيام بأموره، وكذلك إذا نصّ في وقفيّته: على أن لا يشارك أحدٌ النّاظرَ الذي نصبه في الكلام على وقفه، ورأى القاضي أن يضمّ إليه مشارِك، فأجاز له ذلك وإن خالف شرطَ الواقف».
ما يصحّ وما يبطل من الشروط
ومن المفيد أن نشير في هذا المقام إلى أنّ الخلاف بين أهل العلم فيما يصحّ وما يبطل من الشروط خلافٌ عريض؛ لأنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة مصلحيّة، وتكييفهم لطبيعة عقد الوقف وآثاره مختَلَفٌ فيها من البداية، فكان من الطبيعيّ أن تتّسع درجة اختلافهم فيما يتفرّع عن ذلك، ومنه شروط الواقفين.
أصل بطلان الشروط
هذا، وإنّ أصل بطلان الشروط المخالفة للشريعة نصًّا وروحاً، ما جاء في الحديث الصحيح: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «جاءتني بَرِيرَةُ فقالت: كاتَبْتُ أهلي على تسع أواقٍ في كلّ عام أوقيّة، فأعينيني، فقلت: إنْ أحبَّ أهلُك أن أعدّها لهم ويكون ولاؤُك لي فعلتُ، فذهبت بَرِيرَةُ إلى أهلها فقالت لهم، فأبَوْا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ، فقالت: إنّي قد عرضت ذلك عليهم فأَبَوْا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنّما الولاء لمن أعتق»، ففعلت عائشة، ثمّ قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النّاس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أمّا بعد؛ ما بال رجالٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ وإنْ كان مائة شرط، قضاءُ الله أحقُّ، وشرطُ الله أوثق، وإنّما الولاءُ لمن أعتَق».
كلُّ من شَرَطَ شرطًا لم ينطق به الكتاب يبطل
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «قال ابن خزيمة: ليس في كتاب الله: أي ليس في حكم الله جوازُه أو وجوبُه، لا أنّ كلَّ من شَرَطَ شرطًا لم ينطق به الكتاب يبطل، لأنّه قد يشترط في البيع الكفيلَ فلا يبطل الشّرط، ويُشترط في الثمن شروطٌ من أوصافِه أو من نجومه ونحو ذلك، فلا يبطل. اهـ، وقال القرطبي: قولُه: ليس في كتاب الله: أي ليس مشروعاً في كتاب الله تأصيلاً ولا تفصيلاً. اه، ومعنى هذا أنّ من الأحكام ما يُؤخذ تفصيلُه من كتاب الله؛ كالوضوء، ومنها ما يُؤخذ تأصيلُه دون تفصيله؛ كالصلاة، ومنها ما أُصِّلَ أصْلُه؛ كدلالة الكتاب على أصليّة السُّنّة والإجماع، وكذلك القياس الصحيح، فكلّ ما يُقتبس من هذه الأصول تفصيلاً، فهو مأخوذٌ من كتاب الله تأصيلاً».
قال شيخ الإسلام: «وهذا الحديث الشريف المستفيض الذي اتفق العلماء على تلقيه بالقبول، اتفقوا على أنه عامٌّ في الشروط في جميع العقود، ليس ذلك مخصوصاً عند أحد منهم بالشروط في البيع، بل من اشترط في الوقْف أو العتق أو الهبة أو البيع أو النكاح أو الإجارة أو النّذر أو غير ذلك شروطاً تخالف ما كتبه الله على عباده؛ بحيث تتضمّن تلك الشروطُ الأمرَ بما نهى الله عنه، أو النّهي عما أمرَ به، أو تحليلَ ما حرّمه، أو تحريمَ ما حلَّلَه، فهذه الشروط باطلةٌ باتفاق المسلمين في جميع العقود: الوقْف وغيره.
وحديث عائشة هو من العامّ الوارد على سببٍ، وهذا وإنْ كان أكثرُ العلماء يقولون إنّه يؤخذ فيه بعموم اللفظ ولا يُقتصر على سببه، فلا نزاع بينهم أنّ أكثر العموماتِ الواردةِ على أسبابٍ لا تختصّ بأسبابها، كالآيات النازلة بسبب معين مثل: آيات المواريث، والجهاد، والظهار، واللِّعان، والقذف، والمحاربة، والقضاء، والفيء، والرّبا، والصدقات، وغير ذلك، فعامّتها نزلت على أسباب معيّنة مشهورة في كتب الحديث والتفسير والفقه والمغازي، مع اتّفاق الأمّة على أنّ حكمها عامٌّ في حقِّ غير أولئك المعيّنين، وغير ذلك ممّا يماثل قضاياهم من كل وجه، وحديث عائشة ممّا اتّفقوا على عمومه، وأنّه من جوامع الكَلِم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم - وبُعث بها»، وقال -رحمه الله-: «...لكن نَذْر المعصيةِ لا يجوزُ الوفاء به، ونَذْر المباح مخيَّر بين الأمرين، وكذلك الوقْف أيضًا.
حكم الشروط
وحكم الشروط فيه يُعرف بذكر أصلين: أنّ الواقف إنما وقف الوُقوف بعد موته لينتفع بثوابه وأجره عند الله، لا ينتفع به في الدنيا، فإنّه بعد الموت لا ينتفع الميت إلا بالأجر والثواب، ولهذا فُرِّق بين ما قد يُقصد به منفعة الدنيا، وبين ما لا يقصد به إلا الأجر والثواب، فالأول: كالبيع والإجارة والنّكاح، فهذا يجوز للإنسان أن يبذل مالَه فيها ليحصل أغراضاً مباحةً دنيويّة، ومستحبّة، ودينيّة، بخلاف الأغراض المحرّمة، وأمّا الوقف، فليس له أن يبذُل ملكه إلا فيما ينفعُه في دينِه؛ فإنّه إذا بذَلَه فيما لا ينفعُه في الدِّين -والوقْف لا يُنتفع به بعد موتِه في الدّنيا- صار بذل المال لغير فائدةٍ تعود إليه؛ لا في دينه ولا في دنياه، وهذا لا يجوز».
نظر الفقهاء إلى الشروط الباطلة
ومجمل نظر الفقهاء إلى شروط الواقفين الباطلة، سواء في نفسها، أم التي تؤول بعقد الوقف كلِّه إلى البطلان هو:
- عند الحنفيّة: الشرطُ يكون باطلاً ومبطلاً للوقف، إذا كان منافياً للُزوم الوقف وتأبيده، كأن يشترط عند إنشاءه صيغة الوقف أنّ له الحقّ في بيع الوقف أو هبته، ويكون الشرط باطلاً في نفسه إذا كان منهيًّا عنه شرعاً لأي وجه من وجوه النّهي، وكانت مخالفة للأصول الشرعيّة ومقرّرات الشريعة الثابتة.
- وعند المالكيّة: كلّ الشروط صحيحةٌ جائزةٌ، إلّا ما كان ممنوعاً شرعاً كالمعاصي عموماً -وإن كان مكروهاً-، وما كان منافياً لمقتضى الوقْف، وما كان فيه ضررٌ على المستحقّين، كأن يشترط أنّ لا يرمّم الوقْف أبداً، فإنّ هذا إتلافٌ له وإضرارٌ بمستحقّي غلّته.
- وعند الشافعيّة: كلُّ شرطٍ لم يكن في مصلحة الوقْف -غير منافٍ لمقتضاه- ولا مصلحة المستحقّين فهو باطلٌ، لأنّ المغلَّبَ عندهم أنّ الأصل في الشروط الحظر أصلاً.
- وعند الحنابلة: كلُّ شرطٍ منافٍ لمقتضى الوقف باطل، وكذلك كلّ شرط داخلٍ تحت ما ورد الشرع بمنعه، وهو كلُّ شرطٍ محرّم أو مفضٍ إلى محرّم، هذا مع كونهم أكثر أصحاب المذاهب توسُّعاً في تصحيح شروط الواقفين.
فيظهر لنا من هذا التلخيص أنّ ما كان مخالفاً لأصول الشريعة من شروط الواقفين، باطلٌ عند الجميع، وقد يختلفون في إبطال عقد الوقف به، أو إبطال الشرط وحده مع تصحيح العقد، على قواعد وأصولٍ معروفةٍ في كلّ مذهب، والخلاف عريضٌ بين الأصوليّين في مسألة متى يقتضي النّهي فساد العقد؟ ومتى يقتضي صحّة العقد مع بطلان المنهيّ عنه وحده.
تطبيقات القاعدة
- لو وَقَفَ كتباً في مسجدٍ على طلبة العلم، وشَرَطَ ألا تُخْرَجَ منه إلّا برهنٍ، فشرطُه هذا باطلٌ، لأنّ الآخذ إن كان طالب علمٍ كان مستحقًّا لاستعارة الكتاب بالصّفة التي فيه، وكانت يدُه على الكتاب الذي استعاره يد أمانةٍ، ومطالبتُه بالرّهن قلبا ليده إلى يد ضمانٍ، وهذه مخالفةٌ لأصول باب التضمين في الشريعة، فيكون الشرط باطلاً.
- يتناول هذا الضّابط كلّ الشروط المحرّمة، كالوقف على المحاربين، وعلى معابد اليهود والنّصارى والمجوس، فإنّه ليس في الشريعة ما يأذن بتقوية غير المسلمين على المسلمين، ولا بما يقوّي الشّرك وينصر الباطل.
- إذا وقفَ وقفاً وشَرَطَ النّظر فيه لشخصٍ بعينه، وشَرَطَ أنّ هذا النّاظر لا يُعزَلُ وإن ثبتَت خيانتُه وظهرَ فسادُه، فإنّ هذا شرطٌ باطلٌ، لأنّ الشريعةَ لا تقرّ خائناً على ولايةٍ عامّةٍ ولا خاصّةٍ بالاتّفاق.
- لو وقف مسجداً وشرط ألا يعتكف فيه أحد، فالوقف صحيحٌ والشرط باطلٌ لاغٍ.
لاتوجد تعليقات