الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – صرفُ غلّة الوقف بالتساوي على المستحقّين
باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه، ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص ثم من القواعد الفقهية الكلية ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضوابط المتعلّقة بصرف ريع الوقف والضابط الضابط الثاني وهو: أقارب الواقف يقدّمون على نظرائهم من الأجانب استحبابًا.
معنى الضابط
من المفضّل عند توزيع غلّة الوقف وريعه على مستحقّيه، أن يُلحظ في ذلك تقديم أقارب الواقف على غيرهم من المستحقّين، لما في ذلك من تكثير أجر الواقف بالصّدقة الجارية والبِرِّ والصّلة معاً، بخلاف الأجنبيّ، فإنّها تكون عليه صدقةً فقط، وهذا لا يكون بطبيعة الحال في كلّ الصّور، بل من شرطه أن لا يكون للواقف شرطٌ على خلاف ذلك، كأن يكونَ شَرَطَ استيعابَ المستحقِّين جميعًا، وهذا فيما إذا كان الوقْف على محصورين، كأن يكون وَقَفَ على العلماء من أهل بلده، وهم محصورون في عشرةٍ فيهم ثلاثة من قرابته، ولم يكن الوقْف كافياً إلّا لمعلومِ الثلاثة فقط، فلا يُقال بتقديم الأقارب هنا، لأنّه شرطَ استيعاب العشرة، فيُقسّم نصيبُ الثلاثة على الجميع.
ومن شرطِه كذلك أن يكون المستحقُّون قد استحقُّوا نصيبَهم من الوقف بالصِّفَة، لا بأعيانهم، كالوقف على الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، من غير حصرٍ، فهنا يستحبُّ تقديم من وُجدت فيه هذه الصفة من أقارب الواقف على غيرهم، لأنّ عدم انحصار الجهة الموقوف عليها لا يحتّم استيعابها، فيكون التفضيل والتقديم متصوّرًا، فلو وَقَفَ على الأرامل، وكَفَت غلّة وقْفِه لنفقةِ ثلاثٍ فقط، فلاختيارِ ثلاثٍ من قرابته وتفضيلهنّ بهذه النّفقة وجهٌ معتبر، للمعنى الذي سبق بيانه.
فلا يمكن تطبيق هذا الضابط غالبًا إلّا أن يكون الوقْف على غير محصورين، ويكون استحقاقه بالصّفة لا بالأعيان، وأن يخلو الحال من شرط الواقف باستيعاب الجهة أو بالتسوية بين المستحقّين.
التصرُّف في غلّة الوقف المنقطع الآخر
ومن الصور التي نصّ بعض الفقهاء على استحباب تقديم أقارب الواقف على غيرهم فيها، صورة التصرُّف في غلّة الوقف المنقطع الآخر، والوقف المنقطع الآخر هو: كأن يقف على أولاده، ثمّ على كنيسة! فإنّه إذا انقرضَ أولادُه ولم يبقَ منهم أحدٌ، آلَ الوقف لمصلحة الكنيسة، فإذا آلَ إليها صار باطلاً، فانقطع من آخره، فكيف يكون التصرُّف فيه؟
اختلف أهل العلم في هذه الصورة على أقوال:
- الأوّل: يُصرف إلى الفقراء والمساكين.
- الثاني: يرجعُ الوقْف وقفاً على فقراء عصَبَةِ الواقف.
- الثالث: يُصرف إلى أقرب النّاس إلى الواقف من الفقراء.
- الرابع: إذا كان الواقفُ حيًّا رجع الوقف وقفاً عليه، وإن كان ميِّتاً رجع إلى ورثته نَسَبًا وقفاً عليهم على قدْر إرثهم.
- الخامس: يرجع إلى ملك واقفه إن كان حيًّا، أو إلى ورثته.
- السادس: يُصرف في مصالح المسلمين، ومن أصحاب هذا القول من خصّ تلك المصالح بمصارف الزكاة دون غيرها.
وفي جلّ هذه الأقوال نلحَظ مراعاة جانب القرابة من الواقف، ومنحها أولويّة على غيرها.
قال الموفّق: «فإذا انقرضَ المسمّى كانت للفقراء والمساكين، لأنّه جعلها صدقةً على مسمّى، فلا تكون على غيره... والدليل على صرفه إلى أقارب الواقف، أنهم أولى الناس بصدقته، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صدقتك على غير رحمك صدقة، وصدقتك على رحمك صدقة وصِلَة»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنك أنْ تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عَالَةً يتكفّفون الناس»، ولأن فيه إغناءهم وصلة أرحامهم، لأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات، كذلك صدقته المنقولة.
إذا ثبت هذا، فإنه في ظاهر كلام الخرقي، وظاهر كلام أحمد، يكون للفقراء منهم والأغنياء؛ لأن الوقف لا يختص الفقراء، ولو وقف على أولاده، تناول الفقراء والأغنياء، كذا هاهنا.
وفيه وجه آخر، أنه يختص الفقراء منهم، لأنهم أهل الصدقات دون الأغنياء، ولأنّا خصصناهم بالوقف لكونهم أولى الناس بالصدقة، وأولى الناس بالصدقة الفقراء دون الأغنياء، ويحتمل كلام الخرقي أن يصرف إليهم على سبيل الإرث، ويبطل الوقف فيه...والرواية الثانية يكون وقفاً على أقرب عصبة الواقف، دون بقية الورثة من أصحاب الفروض، ودون البعيد من العصبات، فيقدم الأقرب فالأقرب، على حسب استحقاقهم لولاء الموالي، لأنهم خُصُّوا بالعقل عنه، وبميراث مواليه، فخُصُّوا بهذا أيضا، وهذا لا يقوى عندي، فإنّ استحقاقهم لهذا دون غيرهم من النّاس لا يكون إلا بدليلٍ من نصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ، ولا نعلم فيه نصًّا، ولا إجماعاً، ولا يصح قياسه على ميراث ولاء الموالي؛ لأن علّته لا تتحقّق هاهنا.
صرفه إلى المساكين
وأقرب الأقوال فيه صرفه إلى المساكين؛ لأنّهم مصارف مال الله تعالى وحقوقه، فإن كان في أقارب الواقف مساكين، كانوا أولى به، لا على سبيل الوجوب، كما أنّهم أولى بزكاته وصِلَاته مع جواز الصرف إلى غيرهم، ولأنّنا إذا صرفناه إلى أقاربه على سبيل التعيين، فهي أيضاً جهةٌ منقطعةٌ، فلا يتحقّق اتصاله إلا بصرفه إلى المساكين».
وجاء في «ترتيب الصنوف»: «ولو اشترط أحد صرف غلّة وقفه للفقراء والمساكين، وكان الواقف قد أعطى الغلّة في حياته لأولاده، فإنّه تُعطى بعد موته حسب الترتيب الآتي: إلى الأقرب فالأقرب من أولاده الفقراء أوّلاً، بحيث ينالها أولاد الواقف الصُّلْبيُّون أوّلاً، ومن بعدهم أحفاده، ومن بعد أحفاده من يشملهم الوقف من البطن الثالثة فما يليها بطناً بعد بطنٍ.
فإن لم يوجد البعض من هؤلاء، أو وُجدوا ولكن قد بقيت فضْلةٌ من الغلّة بعد أن أخذوا استحقاقَهم منها، أُعطيَت إلى أقرباء الواقف ثانياً مع التزام قاعدة: تقديم الأقرب فالأقرب في باب الاستحقاق في الغلّة، كالإخوة والأخوات والأعمام والعمّات.
فإلى موالي الواقف ثالثاً، فإلى جيرانه رابعاً، فإلى سكّان محلّته خامساً، فإلى الفقراء الأقربين من منزله وأهل مصرِه».
وتطبيقاتُ هذا الضّابط واضحةُ الصورة، ظاهرةُ الوقوع، فلا حاجة لتعدادها والتمثيل عليها.
غير أنّ بعض أهل العلم لاحظ هنا مسألةً دقيقةً، فقرّر أنّ الفقراء من أقارب الواقف ليس لهم أن ينازعوا على حقٍّ لهم مفروضٍ في غلّة الوقف لم يفرضه الواقف ولا عيّنه ولا اشترطَه، لئلّا ينقلب تقديمهم بداعي الاستحباب والأفضليّة إلى تقديمٍ واجبٍ حتميّ.
أحكامًا أربعة
وقيل في كتاب الإسعاف في أحكام الأوقاف: «إذا قال الرجل: أرضي هذه صدقة موقوفة على الفقراء ولم يزد على هذا، جاز الوقف وصُرفت الغلّة إلى الفقراء، فإن احتاج بعض قرابته أو بعض ولده إلى ذلك فهذه المسألة تتضمّن أحكاماً أربعة:
- أحدها: أنّ صرف الغلّة إلى فقراء القرابة أولى، فإن فَضَلَ شيءٌ منها صرَفَهَا إلى الأجانب.
- والثاني: أنّه لا ينظر إلى المحتاجين من القرابة يوم حدثت الغلّة، وإنّما ينظر إلى المحتاجين يوم قسمة الغلّة.
- والثالث: أن ينظر إلى الأقرب فالأقرب منه في القرابة وهو ولد الصُّلب أوّلاً، ثمّ ولد الولد بعد ذلك، ثمّ البطن الثالث، ثمّ البطن الرابع وإن سفُلوا، فإن لم يكن من أولاده أحدٌ، فمن أولاد ابنه من هو أقرب إليه، ثمّ هكذا على الدرجات، فإن لم يكن منهم أحدٌ فالجيران.
- والرابع: أنه يعطي للأقرباء الذين ذكرناهم... كلّ رجل أقلّ من مائتي درهم، ولا يبلغ مائتي درهم !
الحكم الأوّل
أمّا الحكم الأوّل؛ فلأنّ في صرف الغلّة إلى فقراء القرابة صلة وصدقة، فكان ذلك أوفر لحظّ الواقف، وهذا قول أبي بكر هلال بن يحيى، وقال الشيخ أبو القاسم الصفّار: إن لم ينازعوا، فكما قال أبو بكر، صرف الغلّة إليهم أفضل، فأمّا إذا نازعوا لا يُعطَوْن شيئاً».
ثمّ نقل عن بعضهم أنّهم إن نازعوا لا يُحرمون ألبتّة، وإنّما لا يُعطَوْن كلّ ما نازعوا عليه، وكلّها تقييداتٌ متّجهة، لأنّ إقرار الأقارب على ما يشتهون في هذه الصورة يفضي إلى نقض قصد الواقف ونقل غلّة وقفه من جهة عامّة إلى جهةٍ خاصّة، فينبغي أن لا يُجعل المُعطَى على سبيل الاستحباب والأفضليّة واجباً لخصومة أحدٍ كائناً ما كان.
وقال شيخ الإسلام: «وإذا وقف على الفقراء، فأقارب الواقف الفقراء أحقّ من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة، وإذا قُدِّر وجود فقير مضطر كان دفع ضرورته واجباً، وإذا لم تندفع ضرورته إلا بتنقيص كفايةِ أقاربِ الواقفِ من غير ضرورةٍ تحصل لهم، تَعَيَّنَ...».
لاتوجد تعليقات