الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – الضوابط المتعلقة بصيغة الوقف – غرض الواقف مخصِّصٌ لعموم كلامِه
معنى الضابط: غرض الواقف: هدفُه وقصدُه وما أرادَ تحقيقَه من الوقْف.
عموم: مصدر عمّ، يعُمّ، والعامّ: اللّفظ المستغرقُ لما يصلُح له من غير حصرٍ.
مخصِّصٌ: اسمُ فاعلٍ من خصَّصَ يخصِّصُ، والتخصيص: إخراجُ بعض أفراد العام عن حكمه، أي: عن حكم العام، بمعنى أن يكون اللّفظ شاملاً لما يدخل فيه من الأفراد على وجه الاستغراق، ثمّ تُخرَج منه بعض تلك الأفراد.
والأصلُ الغالبُ أنّ التخصيص يكون بأدواتٍ لفظيّة وُضعت له، كالشّرط، وأدوات القَصْر والاستثناء، والصِّفة من حالٍ ونعتٍ وبَدَلٍ، لكن موضوع هذا الضابط هو تخصيص عموم كلام الواقف بتسليطِ معرفتنا بقصدِه على عموم كلامه.
وعليه فمعنى الضابط: معرفتُنا بغرض الواقف ومُراده الذي أراد تحقيقَه والمقصدَ الذي توجّه إلى رعايته من وقفه، يجعلنا نخصِّصُ ألفاظَه العامّة، فنُخرج منها بعض الصور والأفراد الدّاخلة فيها، إذا ظهر لنا أنّها بعيدةٌ جدًّا عن غرض الواقف، أو أنّ إعمالَهَا يرجعُ على غرضِه بالضّرر من نقضٍ وإبطالٍ، أو إنقاصٍ وتعطيل.
لكل واقف غرض
قال الأستاذ العلّامة مصطفى الزّرقا:
«إنّ لكلّ واقفٍ غرضاً عامًّا من وقْفه يظهر من موضوع الوقف، كغرض الشارع من قانونه وأحكامه، فغرض الواقف في وقفه على أولاده ونسله تحقيق البرّ الدائم لجميع الذريّة، بمنفعة ماليّة تجري عليهم باستمرار، بالشكل والترتيب الذي اختاره الواقف، وفي الوقف على مدرسة علميّة غرضُه إحياء العلم ونشره، وتخريج علماء بالقدر الممكن بوسائل ذلك الوقف وماليّته، وفي الوقف على الفقراء والعَجَزَةِ غرضُه إسعاف هؤلاء بالنّفقة الحيويّة، ولو غير قابلين للتعلُّم والتثقيف.
بعض الغموض والإبهام
وكثيراً ما يكون في عبائر شروط الواقفين غموض وإبهام؛ بحيث يحتمل حملُها على معنىً أو على عكسه، أو على إطلاق أو تقييد، بحسب أصول الفهم وقواعده التي سلف إيضاحها، ويترتب على ذلك إعطاء أو حرمان ونحو ذلك.
فالنّظر الفقهيُّ يقضي بأن يُحكَّم في ذلك غرضُ الواقف، عندما لا تستطيع القواعد الأصوليّة تعيين أحد الاحتمالات، فما كان منها أقرب إلى غرض الواقف وجب ترجيحه والعمل به دون سواه؛ لأنّه أقرب أن يكون مراده، وهذا كما ترى في غاية السداد؛ إذ لا يعقل عندئذ ترجيح الاحتمال المخالف على الملائم لغرض الواقف.
وهذا مستمدٌّ من الموقف الذي يجب أن يقفه القضاء من نصوص الشارع وغرضه، لأنّ شرط الواقف كنصّ الشارع، إذ يرجّح من احتمالات النصوص التشريعية ما هو أقرب للغرض العامّ للشارع، من تحقيق العدل ودفع الجور، وإلى غرضه الخاصّ من موضوع نظامه وقانونه الذي فيه الغموض والاحتمال».
والترجيح بإعمال مقاصد الشريعة من المباحث الكبيرة العالية في أصول الفقه، يُحتاج إلى فقهها في النّوازل وفي بعض المسائل النادرة الحدوث.
ثمّ قال العلّامة الزّرقا -مبيّنًا مجال إعمال غرض الواقف في تفسير كلامه-: «ومحلّ الاعتبار لغرض الواقف أن يكون اللّفظ مساعداً في الاحتمال كما أشرنا إليه، فإذا كان اللّفظ لا يحتمله فالعبرة للّفظ، وإنْ كان فيه جَوْرٌ عن غرض الواقف الملحوظ».
أغراض الواقفين
قال ابن الرّفعة: «أغراضُ الواقفين وإن لم يصرَّح بها يُنظَر إليها».
ولذلك فقد جاء في (ترتيب الصنوف): «إذا جاز حمل اللفظ على معنيين فإنّ أحدهما يتعيّن بغرض الواقف وقصده».
بل إنّ مسألة استبدال الوقف أو بيعه عند تعطُّل منافعه مبنيّة عند من جوّزها في الواقع على مبدأ استمرار المنفعة والعطاء، ودوام الفائدة من الوقف وبقاء غلّته وريعه، وهذا هو ما أراده الواقف في الدّرجة الأولى، فكان البيع والاستبدال تحقيقاً لغرضه.
قال ابن عقيل: «الوقف مؤبّد، فإذا لم يمكن تأبيده على وجهٍ، يخصّصه استبقاء الغرض، وهو الانتفاع على الدّوام في عينٍ أخرى، وإيصالُ الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطُّلها تضييعٌ للغَرَض، ويَقْرب هذا من الهَدْي إذا عُطِبَ في السفر، فإنه يُذبح في الحال، وإنْ كان يختصّ بموضع، فلمّا تعذّر تحصيل الغرض بالكليّة، استُوْفِي منه ما أمكن، وتُرك مراعاة المحلّ الخاصّ عند تعذُّره؛ لأنّ مراعاتِه مع تعذُّره تُفضي إلى فوات الانتفاع بالكلّيّة، وهكذا الوقْف المعطّل المنافع».
تغيير هيئة الوقف
وكذلك مسألة تغيير هيئة الوقف تغييراً منضبطاً بهدف تيسير عمارته أو زيادة ريعه وغلّته، فقد يسكُت الواقف في وقفيّته عن ذكر الإذن بذلك، ويُجري كلَّ شروطه على أساس ثبات الوقف على هيئته التي كان عليها حين وقفه، فإنّ الفقهاء جوّزوا تغيير الهيئة ضمن ضوابط، مراعاةً لقصد الواقف وإن لم يصرّح بالإذن بذلك.
قال الهيتمي: «وقد صرحّ بذلك القفّال، فقال: لا بدّ من النّظر إلى مقاصد الواقفين، ثم قال ابن الرفعة: ولهذا كان شيخنا عماد الدين -رحمه الله تعالى- يقول: إذا اقتضت المصلحة تغيير بعض بناء الوقف في صورته لزيادة ريعه، جاز ذلك وإن لم ينصّ عليه الواقف بلفظه، لأنّ دلالة الحال شاهدةٌ بأنّ الواقف لو ذَكَره في حالة الوقف لأثبته في كتابِ وقفه.
وقلت لشيخ الإسلام في وقته تقي الدّين القشيري -أي ابن دقيق العيد- رحمه الله -سبحانه وتعالى- عن فعل القضاة من تغيير بابٍ من مكان إلى مكان، وذكر عنه كلاماً أشعرَ برضاه بذلك».
فنحن نرى أنّ تقريرات أهل العلم لمعنى هذا الضّابط تتجاوز تخصيص العامّ، وإن كان هو المذكور في العنوان، إلى تسليط العلم بغرض الواقف على تفسير المبهمات والمحتملات من كلامه، فالضابط يقرّر قضية اعتبار غرض الواقف عموماً، والله أعلم.
التطبيقات:
1- إذا وَقَفَ أرضاً على أولاده: حسنٍ وعليٍّ وعلى من يحدثُ له من الولد، فمات عليٌّ، وحدثَ للواقف ولدٌ اسمُه محمّد، فهل الهاء في (له) ترجع إلى الواقف؟ أم إلى عليٍّ لأنّه أقرب مذكور؟ الجواب: إلى الواقف، لأنّه أوفَق لغرضِه في العادة الغالبة.
2- «رجلٌ وقفَ أرضاً له على المساكين وقفاً صحيحاً ولم يذكر عمارتها في غلّة هذه الأرض، فهذا القيم أوّلاً من الغلة بعمارتها وما يصلحها، وما فَضَلَ من ذلك يقسَم على الفقراء، وهذا لأنّ العمارة وإن لم تكن مشروطةً في الوقْف نصًّا فهي مشروطةٌ اقتضاءً؛ لأنّ مقصود الواقف إدرار الغلّة مؤبّداً على المساكين، وهذا المقصود إنّما يحصل بإصلاحها وعمارتها، فهي معنى قولنا: إنّ العمارة مشروطةٌ اقتضاءً، ثابتٌ بطريق الضّرورة، والضّرورة تندفع بشرط العمارة من غلّة هذه الأرض».
3- إنْ كانت قطعةٌ من الأرض الموقوفة سَبِخَةٌ لا تنبت شيئاً، فيحتاج إلى كَشْحِ وجهها وإصلاحها حتى تنبت، كان للقيّم أنْ يبدأ من غلّة جملة الأرض بمؤنة إصلاح تلك القطعة؛ لأنها إذا صلحت كبرت الغلة فكان أنفع للفقراء، لأنّ منفعة الفقراء هي غرض الواقف ومقصودُه.
4- من وقف شيئًا من الأنعام على فقراء أو معيّنين ليُنتفع بألبانها وأصوافها وأوبارها، فنسلُها كأصلها في التحبيس، فما فَضَلَ من ذكور نسلها عن النَّزْوِ، وما كَبُرَ منها أو من نسلها من الإناث، فإنّه يُباع ويعوَّض بدلُه إناثٌ صغارٌ تحصيلاً لغرض الواقف.
5- من وقف على جهةٍ عامّةٍ، كالمساكين، ولم يزد في شروطه شيئًا عن أولويّة التقديم والتأخير، قدّمنا الأحوج منهم فالأحوج في الغلّة والسُّكنى وكلّ منافع الوقف، لأنّه لا شكّ في أنّ التقديم بناءً على مقدار الحاجة هو الأظهر توافقاً مع غرض الواقف.
6- غرض الواقف من الوقف على أولاده تحقيق البرّ والرّفق بهم بمنفعةٍ ماليّةٍ مستمرّةٍ، وغرضه من الوقف على الفقراء سدّ حاجتهم، ومن الوقف على مدرسةٍ نشر العلم وإحياؤه، فهذه أغراض ظاهرة كلُّها تراعى عند التباس بعض الألفاظ وخفاء المراد بها على التحديد.
لاتوجد تعليقات