رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 14 ديسمبر، 2020 0 تعليق

الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – إذا علّق الواقف الاستحقاق بصفةٍ دار الاستحقاق معها وجوداً وعدمًا


باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه؛ ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة، الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصّة بباب الوقف، وهو ما سنتناوله في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع الضوابط المتعلقة بصيغة الوقف، والضابط السابع إذا علّق الواقف الاستحقاق بصفةٍ، دار الاستحقاق معها وجوداً وعدماً.

معنى الضابط

     إذا جعل الواقف وقفه على جهةٍ تُعلَمُ بالوصف وليست محدّدةً بالأعيان، كالفقراء أو العلماء أو القرّاء، فإن الاستحقاق من غلّة هذا الوقف يكون بحسب توفُّر تلك الصفة في الشخص، فإن وُجدت فيه استحقّ، وإن لم توجد فيه لم يستحقّ، وكذلك من كانت فيه الصفة ثمّ زالت، فإنّه ينقطع استحقاقه، وعكسُه مثلُه، وهو ألا تكون فيه الصّفة ثمّ تحدث له، فإنّه يستحقّ من غلّة الوقف بعد أن لم يكن مستحقًّا.

صورةٌ تطبيقيّةٌ لقاعدةٍ أصوليّةٍ

     وهذا الضّابط في الواقع صورةٌ تطبيقيّةٌ في باب الوقف لقاعدةٍ أصوليّةٍ هي في أصول الفقه أشهر من نارٍ على علم؛ لأنّها من أوّليّات هذا العلم وكلّيّاته، وهي قولُهم: «الحُكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً»؛ لأنّ الحكم هنا هو الاستحقاق، والوصفُ هو علّة ذلك الاستحقاق، والذي رتّب هذا الحكم على تلك العلّة هو الواقف، وذلك تصرُّفٌ جائزٌ منه، إذ له أن يشترطَ ما يشاء من الشروط الجائزة، وله أن يختار ما يشاء من وجوه القُرَب التي لا مناقضةَ فيها لمقاصد الشريعة.

     ومن لطيف ذلك ما ذكره بعض الحنفيّة، فيما إذا كان ثمّةَ وقفٌ على إمام المسجد، فقبض معلومَه السنويَّ من غلّة الوقف، ثمّ غاب عن المسجد قبل انقضاء السَّنَة، وكذا إذا كان الوقْف على ساكني مدرسةٍ من الطّلبة، فإنّ الواقف لو أطلقَ القول بأنّه على ساكني المدرسة الفلانيّة، ثمّ جاء وقت الغلّة، فإنّ الساكنين جميعاً يستحقّون منها، لكن إن كان شَرَطَ -مثلاً- أنّ الاستحقاق فقط لمن واظب على حضور الدّرس يوم الجمعة، فلا يستحقّ إلا من واظب على حضوره.

     وكذا تمثيلهم بالإمام، إذا كان قد أنابَ عنه إماماً آخر، فأيّهما يستحقُّ الغلّة؟ الجواب: إذا كان الإمام الأصيل قد قام بالإمامة أكثر السّنة فهو المستحقُّ وحدَه، ولا يستحقُّ النّائبُ شيئاً بمجرّد إمامته إلّا أن يكون الأصيلُ قد شرَطَ له شيئاً، لكن إن كان الأصيلُ غائباً، وقام النّائب بالإمامةِ، وكانت غلّة الوقف مشروطةً لمن يباشر الإمامةَ في المسجد، فإنّ النّائب هو المستحقُّ لها دون الأصيل، وما هذا إلا لمنطقيّة هذه القاعدة في مراعاة شرط الواقف الذي أراد به إعطاء الموصوف لا المعيّن.

لا يستحق النائب شيئا إلا بشرط

     قال ابن عابدين: «إذا باشر الأصيلُ أكثرَ السَّنة فصريحٌ ما مرّ عن «القنية» أنّه لا يستحقّ النائب شيئاً، أي: إلا إذا شَرَطَ له الأصيل أجرةً، أمّا إذا كان المباشر هو النّائب وحدَه، وشَرَطَ الواقفُ المعلومَ لمُباشِرِ الإمامةِ أو التدريسِ مثلاً، فلا خفاءَ في اختصاصِه بالمعلومِ بتمامِه».

     ومع كون فقهاء الحنفيّة لا يقولون بإعمال مفهوم المخالفة في أصول فقههم، إلّا أنّهم يُعملونه في معاملات النّاس الجارية على مقاصدهم وأعرافهم، قال الكردري: «تخصيص الشيء بالذكر لا يدلُّ على نفي الحكم عمّا عداه في خطابات الشرع، فأمّا في متفاهَم الناس، وعُرْفِهِم، وفي المعاملات، والعقليات، فيدلُّ».

وعلّق ابن عابدين على ذلك بقوله: «فعُلم أنّ المتأخرين على اعتبار المفهوم في غير النّصوص الشرعيّة... وحيثُ كان المفهوم معتبراً في متفاهَم النّاس وعُرْفِهِم وجبَ اعتبارُه في كلامِ الواقفِ أيضاً، لأنّه يتكلّم على عُرْفه».

     وقال الدّسوقي: «وأما الوقف على الفقراء، أو طلبة العلم، أو على الشباب، أو الصغار، أو الأحداث، فإنّ من زالَ وصفُه بعد سُكْنَاه يخرج»، وقد أشار النّوويُّ إلى لزوم أن يكون للصّفةِ التي عُلِّق عليها الاستحقاق حدٌّ يُعرَف، لأنّ ما لا ينضبط يتعسّر البناء عليه، وستأتي الإشارة إلى ذلك في الفائدة الأولى إن شاء الله، قال: «يصحّ الوقف على المتفقّهة؛ وهم المشتغلون بتحصيل الفقه مبتدئُهم ومنتهيهم، وعلى الفقهاء، ويدخل فيه من حصّل منه شيئاً وإن قلّ».

الوقف على الصوفية باطل

     الوقف على الصوفية، حُكِيَ عن الشيخ أبي محمد أنّه باطل؛ إذ ليس للتصوُّف حدٌّ يُعرَف، والصحيح المعروف صحّته، وهم المشتغلون بالعبادة في أغلب الأوقات، المعرضون عن الدنيا، وفصّله الغزالي في (الفتاوى) فقال: لا بدّ في الصوفيّ من العَدَالَةِ، وتركِ الحِرْفَةِ، ولا بأس بالوِرَاقَةِ، والخياطة، وشبهِهِما إذا تعاطاها أحياناً في الرّباط لا في الحانوت، ولا تقدح قدرتُه على الكسب، ولا اشتغالُه بالوعظ والتدريس، ولا أنْ يكون له من المال قَدْرٌ لا تجب فيه الزكاة، أو لا يفي دخلُه بخَرْجِه، وتقدحُ الثروةُ الظاهرةُ والعروض الكثيرةُ، ولا بدّ أنْ يكون في زيِّ القوم! إلا أنْ يكون مُسَاكِنًا، فتقوم المخالطة والمساكنة مقامَ الزِّيِّ، قال: ولا يشترط لبس المرقّعة من شيخٍ! وكذلك ذكر المتولِّي»، وإن حصل للقاضي تردُّدٌ في وجود الصّفة في مدّعي الاستحقاق، فإنّ الأمرَ محلُّ اجتهادٍ ونظر، فيبذُل وُسعَه في إصابة الصواب.

     قال الخطيب الشربيني: «ويدخل في الوقف على الفقهاء من حصّل في علم الفقه شيئاً يهتدي به إلى الباقي وإنْ قلّ، لا المبتدىء من شهرٍ ونحوِه، وللمتوسّط بينَهُما درجاتٌ يجتهد المفتي فيها، والوَرَعُ للمتوسّط التركُ وإنْ أُفْتِيَ بالدّخول! كما نقلَه المصنّف عن الغزّالي».

تقييد الاستحقاق

فائدة: من بدائِهِ هذا الباب التي يمتزج فيها الفقه وأعمال القلوب والإيمانيّات، أن يتعرّض الفقهاء لضبط بعض الألفاظ التي قد ترد في كلام الواقفين، كالمؤمن، والتقيّ، والصالح، والزاهد، والعفيف، والعاقل، ونحو ذلك.

قال صاحب (الدّر المختار): «ولو قيّده بصُلَحائِهم، أو بالأقرب فالأقرب، أو فالأحوج، أو بمن جاوره منهم، أو بمن سكن مصر، تقيَّدَ الاستحقاقُ به عملاً بشرطِه».

     وفي ضبط الصالح، قال في (الإسعاف): «لو قال: أرضي هذه صدقةٌ موقوفةٌ لله -عز وجل- أبداً على الصلحاء من فقراء قرابتي، ثمّ من بعدهم على المساكين، صحّ الوقف، واستحقّ غلَّتَه من فقراء قرابتِه من كان مستوراً ولم يكن مهتوكاً، ولا صاحب رِيبةٍ، وكان مستقيمَ الطريقةِ، سليم الناحيةِ، كامن الأذى، قليلَ الشّرّ، ليس بمعاقرٍ للنّبيذ، ولا ينادم عليه الرجال، ولا قذّافًا للمحصنات، ولا معروفاً بالكذب، فهذا هو الصلاح عندنا، ومثله: أهل العفاف، والخير، والفضل، ومن كان أمرُه على خلافِ ما ذكَرْنا، فليس هو من أهل الصلاح ولا العفاف.

وبسبيلٍ من هذا، ما أُثِرَ عن الإمام الشافعيّ -رحمه الله-، أنّه قال: «لو أوصى رجل بشيءٍ لأعقَل النّاس، صُرِفَ إلى الزُّهَّاد!»، وقياسُه أنّه لو قال: داري وقفٌ على أعقل أهل بلدي مثلاً، صُرفَ إلى أزهدهم.

صحّة الوقْف على قرّاء القرآن والفقهاء

     وهذا الضّابط يقتضي صحّة الوقْف على الزّمنى والعميان وقرّاء القرآن والفقهاء وأهل الحديث، ويُصرف لفقرائهم لإشعار الأسماء بالحاجة استعمالاً، لأنّ العمى والاشتغال بالعلم يقطع عن الكسب، فيغلب فيهم الفقر، وهو أصحّ مما سيأتي في باب الباطل أنّه باطلٌ على هؤلاء. اهـ

     ومقتضاه أنّه يصحّ على الصوفيّة أيضاً، لأنّ الفقر فيهم أغلب من العميان، بل اصطلاحهم تسميتهم بالفقراء، وهذا إنْ كانت العلّة ما ذُكِر، وإلا ففي (التتارخانيّة) عن الإمام أبي اليسر أنّ الصوفيّة أنواعٌ؛ فمنهم قومٌ يضربون بالمزامير ويشربون الخمور! إلى أن قال فيهم: إذا كانوا بهذه المثابة كيف يصحّ الوقف عليهم؟!اهـ

      فأفاد أنّ العلّة أنّ منهم من لا يصحّ الوقف عليهم، فلا يكون قُرْبَةً، ويحتمل أنّ المراد: لا يصحّ الوقف على هذا النوع منهم إذا عيّنهم الواقف، وهذا وإنْ كان خلاف ظاهر العبارة، لكنه من حيث المعنى أظهر، لأنّ لفظ الصوفيّة إنّما يُراد به في العادة من كانوا على طريقة مرضيّة، أما غيرهم فليسوا منهم حقيقةً وإن سمَّوْا أنفسهم بهذا الاسم، فإذا أطلق الاسم لا يدخلون فيه، فيصحّ الوقف، ويستحقّه أهل ذلك الاسم حقيقةً، وحينئذ تكون علّة الصحّة ما مرّ من غلبة وصف الفقر عليهم، فاغتنم هذا التحرير.

تطبيقات القاعدة

- إذا قال: وقفتُ على أولادي الذكور فلا تُعطى الإناث، وإن قال: وقفتُ على ذرّيتي الإناث، فلا يُعطى الذكور، لأنّ الحكم معلّقٌ على صفتي الذكورة والأنوثة.

- إذا وقفَ على ابنتِه ما دامت عازبةً، فإنّها تستحقُّ طالما هي كذلك، فإن تزوّجت انقطع حقُّها.

- لو فسقَ ناظرُ الوقف، ثم صارَ عدلاً، فإنْ كانت ولايتُه مشروطةً في أصلِ الوقف منصوصاً عليه بعينه، عادت ولايتُه، وإلا فلا.

- إذا وقفَ على بني فلانٍ ما داموا في بلدة كذا، فخرج بعضهم منها، انقطع استحقاقه.

- قال مالك: إذا حبسَ على ولده حتى يستغني، فالاستغناء أنْ يلي نفسَه ومالَه بالبلوغ أو ما يقوم مقامه من حد الاحتلام، ويكون رشيداً.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك