رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 9 فبراير، 2018 0 تعليق

الضوابط الفقهية في الأعمال الوقفية 29 – نفقة الوقف من غلّته

 

     قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة: 261).

     وقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث عدة، تشير إلى مدى أهمية الوقف منها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، وكذلك وردت آيات كثيرة تحث على عمل الخير، وإعطاء الصدقات التي يتقرب بها إلى الله -عز وجل- كقوله -تعالى-: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وقوله -تعالى-: {وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}.

     ما يحتاجه الوقف من نفقةٍ لبقائه على صورة يُنتفع به فيها، ويتأدّى منها مقصود الشّرع ومقصود الواقف، فهو مأخوذٌ من غلّة الوقف نفسِه، وتقديمُ الإعمار والصّيانة التي تضمن بقاء عين الوقف وسلامتها واستمرار عطائِها أمرٌ واجبٌ، ومتّفقٌ على وجوبه بين الفقهاء، بل ومصرّحٌ بأنّه يُخالَف فيه شرطُ الواقف لو صرّح بعدم تقديم تكاليف العمارة على غيرها من المصارف! وهذا وحده كافٍ في إدراك أهميّة هذا المصرف الذي به دوام الوقف وحفظُه.

     قال ابن عابدين: «والحاصلُ مما تقرّر وتحرّر أنّه يبدأ بالتعمير الضروريّ، حتى لو استغرق الغلّة جميعها صُرفت كلُّها إليه، ولا يُعطى أحدٌ ولو إماماً أو مؤذّناً، فإن فَضَلَ عن التعمير شيء يُعطى ما كان أقرب إليه ممّا في قطعه ضرر بَيِّنٌ، وكذا لو كان التعمير غير ضروري بأن كان لا يؤدّي تركُه إلى خراب العين لو أُخِّر إلى غلّة السنة القابلة، فيقدّم الأهم فالأهم». وقال الخرشي: «لا يتبع شرطَ الواقفِ عدمَ البَدَاءة بإصلاح ما انثلم من الوقف، فلا يجوز اتّباعه؛ لأنّه يؤدّي إلى بطلان الوقف من أصله، بل يبدأ بمَرَمَّةِ الوقف وإصلاحه؛ لأنّ في ذلك البقاء لعينه والدوام لمنفعته». وقال الخطيب الشربيني: «تُقَدَّم عمارة الموقوف على حقّ الموقوف عليهم؛ لِما في ذلك من حفظ الوقف». وقال ابن مفلح: «وتُقَدَّمُ عمارته على أرباب الوظائف».

على أنّ العمارة المقصودة في هذا الباب هي الضرورية التي لا يقوم الوقف بغيرها، دون ما يُعدُّ توسُّعاً لا حاجة له ولا منفعة فيه.

     قال الرحيباني: «(فإن شَرَطَها) أي: العمارة واقفٌ (عُمِل به) أي: بالشرط على حسب ما شرط؛ لوجوب اتباع شرطه، سواء شَرَط البداءة بالعمارة أم تأخيرها، فيُعمل بما شرط، لكن إن شرط تقديم الجهة عُمل به.

      قال الحارثي: ما لم يؤدِّ إلى التعطيل، فإذا أدّى إليه؛ قُدِّمت العمارة حفظاً لأصل الوقف، وقال: اشتراط الصرف إلى الجهة في كل شهر كذا، في معنى اشتراط تقديمه على العمارة، ومع الإطلاق تُقدم على أرباب الوظائف، (وأمّا نحو مسجد ومدارس) وزوايا (فتُقدَّم عمارةٌ على أرباب وظائف مطلقاً) سواءً شرط البداءة بالعمارة أم بالجهة الموقوف عليها، أم لم يشرط شيئا. قال المنقّح: (ما لم يفض) تقديم العمارة (إلى تعطيل مصالحه فيجمع بينهما) أي: بين العمارة وأرباب الوظائف، (حسب الإمكان) لئلّا يتعطل الوقف أو مصالحه.

      (ويتجه هذا) الجمع بين العمارة وأرباب الوظائف فيما إذا احتيج إلى (عمارة شرعية، كحائط مسجد) ومدرسة (وسقفه) أي: المسجد أو المدرسة، فيُعاد ذلك (بلا تزويقٍ) بنقشٍ وصبغٍ وكتابةٍ وغيره ممّا يلهي المصلي عن صلاته غالبا؛ لأنه مكروه، ومثله التجصيص».

      وقد استدلّ شيخ الإسلام -رحمه الله- لهذا الضّابط بما نقله عن القاضي أبي يعلى، قال: «ونفقةُ الوقْف من غلّته؛ لأنّ القصد الانتفاع به مع بقاء عينه، وهذا لا يمكن إلا بالإنفاق عليه، فكان إبقاؤه يتضمن الإنفاق عليه، وما يبقى للموقوف عليه». وقال الموفّق: «ونفقة الوقف من حيث شَرَط الواقف؛ لأنّه لما اتُّبع شرطُه في سبيلِه وجب اتِّباع شرطه في نفقته، فإن لم يمكن فمن غلّته؛ لأنّ الوقف اقتضى تحبيس أصله وتسبيلَ نفعِه، ولا يحصل ذلك إلا بالإنفاق عليه، فكان ذلك من ضرورته».

     وهذا المقرّر أعلاه من كون نفقة الوقف بحسب ما يعيّن الواقف، فإن لم يفعل ففي غلّته، فإن لم يكن في غلّته سَعة ففي بيت المال؛ هو القول الراجح، وهو قول الجمهور من أهل العلم، وهذا فيما إذا كان الوقف على جهةٍ عامّة كالمساجد، والآبار، والثغور، والرُّبُط، ونحو ذلك.

      أمّا إذا كان الوقف على جهةٍ خاصّة كمن وقف داره على أولاده من بعده، فالاتفاق أيضاً حاصلٌ على أنّ هذا النّوع من الوقف إذا كانت له غلّة فنفقته من غلّته، كالأوّل، وإنّما اختلفوا فيما إذا كان لا ريع له، وتعرّض للخراب، فعلى من تكون نفقته؟ ذهب الجمهور من الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة إلى أنّ نفقته تكون على الموقوف عليهم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة، وذهب الحنابلة إلى أنّ عمارته ليست واجبةً على أحد.

تطبيقات القاعدة

     إذا احتاج الوقف إلى صيانةٍ وتعميرٍ، فأوّل ما يُؤخذ من غلّته ما يكون لهذا الغرض ليبقى ما أمكن على الصّفة التي وُقف عليها، وإن انهدمَ بُني ما أمكن على الصفة التي وُقف عليها كذلك، سواءً شرَطَ الواقف ذلك أم لم يشْرُطْه.

     إن لم تكن للوقْف غلّة، مثل إن كان عبداً تعطّل أو بهيمةً هزَلَت، فالموقوف عليه بالخيار بين الإنفاق عليه لكونه المالك، وبين أن يبيعه ويصرف ثمنه في مثله، وكذا المحلّات والدكاكين التي خَرِبَت النواحي التي هي فيها، وتحوّلت من عندها الأسواق، وحُوِّلت الشوارع العامّة، حتى رَغِبَ المستأجرون عنها، فإنّها إذا كانت موقوفةً على جهةٍ خاصّة فتلك الجهة بالخيار بين تركها والإنفاق عليها.

     لو وُقف وقفٌ على المساجد، أو السّلاح وأدوات الجهاد، أو المساكين والفقراء، ثمّ تخلّفت غلّته في بعض الأحيان عن الوفاء بتكاليف عمارته، فعمارته على بيت مال المسلمين، وهذا هو الشأن في كلّ موقوفٍ على الجهات العامّة.

     لو قال الواقف: إنْ لم تَفِ غلّة الموقوف بمصاريفه، فإنّي أتعهّد بأن أوفّيها من مالي، فلا يُجبَر الواقفُ قضاءً على الوفاء بتعهّده، بناءً على أنّ المتبرِّع لا يُلزَم بالوفاءِ بوعده عموماً.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك