رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 16 مارس، 2015 0 تعليق

الضوابط الشرعية في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم (3)

من طلب الانتصار لنبي الرحمة  صلى الله عليه وسلم - طلب وسائل شرعية ومقاصد سامية فلا سبيل له في تحقيق ذلك وتكميله إلا بأن تكون نصرته بالله ولله وفي الله

 

النُّصرة الشرعية الممدوحة للنبي صلى الله عليه وسلم لا تتحقق - على أرض الواقع - إلا بوجود الضوابط الشرعية، والوقوف على المقاصد الدينية ، واستخراج الأحكام من الأدلة الصحيحة، واستظهار النتائج من المقدمات العلمية، والاتصاف بالتوسط الشرعي في الأقوال والأعمال، وأن يكون التعامل مع الأحداث خارجاً مخرج الصدق والديانة والأمانة، وأن تعطى الشريعة حقها من الرعاية والصيانة. ونستكمل اليوم الكلام عن أهم الضوابط الشرعية التي من أهمها:

الضابط الثامن: تصرفات الإمام في - باب النُّصرة - منوطة بالمصلحة.

وهذا الضابط يُبحث في أصلين:

- الأصل الأول: النّصرة التامة لا تتحقق إلا باقتران السماحة بالشجاعة:

     لا يصلح أمر الدين والدنيا ، ولا تحفظ ثغور المسلمين ، ولا تصان بيضة الإسلام إلا بأن يجمع إمام المسلمين – في سلوكه وخططه وتراتيبه – بين الشجاعة والسماحة؛ فهو لا يعان على رعاية السياسة وتنفيذ الأحكام وتطبيق الحدود وحراسة الملة إلاّ إذا كانت سياسته في الملك ومعاملته مع الخلق مبنيةً عليهما معاً، ليحصل من اجتماعهما الوسطية والاعتدال في النُّصرة من غير تهور ولا جبن .
   

     ولا يتردد القلم أن يخط حقيقة تاريخية وشرعية وهي: أن الأمة لم تنتفع بشيء مثلما انتفعت بالسّماحة المكيّة والشجاعة المدنيّة حتى صارت الشهامة السُّلطانيّة خادمةً للسّماحة الإسلامية وقائمة عليها بالرعاية والحفظ، وقد جمع نصٌّ قرآنيٌّ بينهما؛ فقال: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴿٣٧﴾ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿٣٨﴾وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}(الشُّورى:37-39)؛ فجمعوا بين العفو والمغفرة لأعدائهم، وبين الانتصار عليهم، وقدم السّماحة على الشجاعة؛ لأن الآية مكية؛ فتحصل الكمال من اقترانهما، قال العلامة السّعدي -معلّقاً على الآيات: فوصفهم بالإيمان، والتوكل على الله، واجتناب الكبائر والفواحش التي تكفر به الصغائر، والانقياد التام، والاستجابة لربهم، وإقامة الصلاة، والإنفاق في وجوه الإحسان، والمشاورة في أمورهم، والقوة والانتصار على أعدائهم، فهذه خصال الكمال قد جمعوها، ويلزم من قيامها فيهم، فعل ما هو دونها، وانتفاء ضدها، والحاجة إلى الشجاعة والسماحة حاجة عامة لكل الخلق ولاسيما لولاة الأمر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا عام في ولاة الأمور وفي الرعية إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ؛ فعليهم أن يصبروا على ما أصيبوا به في ذات الله كما يصبر المجاهدون على ما يصاب من أنفسهم وأموالهم؛ فالصبر على الأذى في العرض أولى وأولى؛ وذلك لأن مصلحة الأمر والنهي لا تتم إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويندرج في ذلك ولاة الأمور؛ فإن عليهم من الصبر والحلم ما ليس على غيرهم كما أن عليهم من الشجاعة والسماحة ما ليس على غيرهم؛ لأن مصلحة الإمارة لا تتم إلا بذلك

     وانظر – يا رعاك الله – كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم  قد اتصف وتخلّق بالشجاعة والسماحة معاً في موضع الاعتداء عليه، فعن جابر بن عبد الله قال: «إنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم  وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه قال جابر: فنمنا نومة، ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي: من يمنعك مني قلت: الله. فها هو ذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله»،

     وفي رواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم  عرض عليه الإسلام: قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله»، قال فذهب إلى أصحابه قال: قد جئتكم من عند خير الناس. قال الحافظ ابن حجر عند ذكر فوائد القصة: فمنَّ عليه لشدّة رغبة النبي صلى الله عليه وسلم  في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام، ولم يؤاخذه بما صنع بل عفا عنه. وفي الحديث فرط شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم  وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال، وهاهنا ثلاثة أمور مهمة:

- أولها: أن النُّصرة الواجبة على ولي الأمر لا تظهر مصلحتها ولا يتحقق وقوعها إلا بالشجاعة والسماحة؛ فالشجاعة بوحدها تفضي إلى التهور والاندفاع؛ والسماحة بوحدها تفضي إلى الذُّل والخضوع.

- الثاني: أن الشجاعة تارة تسبق السماحة ، وتارة أخرى قد تتأخر عنها؛ وهذا كله منوط بالاقتدار والمصلحة.

- الأمر الثالث: أن كل ما كان من باب الحدود والعقوبات الشرعية، أو المناصرة بالقوة العسكرية ، أو المدافعة بالسيف ونحوها فهو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، ولا يجوز الافتئات عليه في أيّ حال من الأحوال.

      فينبغي إذاً على من ينهض بواجب النّصرة والنّجدة من أئمة المسلمين أن يتصف بالبذل والإيثار، ويتخلّق بالسّماحة والصبر، ويتميّز بالشجاعة والإقدام، ويأمر بالعدل والإحسان، ويتحرى اتباع الكتاب والسنة، ويعتني بمقاصد الشريعة، ويحرص على البطانات الناصحة، ويكثّر من المشاورات النافعة.

- الأصل الثاني: تخيير الأئمة في هذا الباب تخيير مصلحة لا تخيير شهوة.

     ثمة فرق ظاهر بين قاعدة تخيير الأئمة، وقاعدة تخيير آحاد المكلفين, فإذا خُيّر الإمام بين أمرين، فعليه أن يختار ما فيه مصلحة للمسلمين؛ فيكون اختياره مبنيًا على الاجتهاد والمصلحة لا على المشيئة والشهوة.

     أمّا تخيير آحاد الناس فيختلف بحسب نوع التخيير؛ فقد يكون تخييرًا بين واجبين، أو بين مباحين؛ فيختار أرجحهما تارةً, وأيسرهما تارة أخرى، وقد يكون اختياره اختيار تشهٍ؛ كما في اختيار الولد لأحد أبويه في الحضانة، وقد جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم  بين أمرين إلا واختار أيسرهما ما لم يكن إثما؛ فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه».

     وقد حمل بعض العلماء معنى التخيير في هذا الحديث على ما كان من أمر الدنيا، وحمله علماء آخرون على الأخذ بالأيسر والأرفق في كل أمر فيه تخيير ما لم يكن حرامًا أو مكروهًا، والأيسر والأرفق في باب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم أو في باب التعامل مع الكفار والمشركين أن يختار الإمام ما فيه مصلحة للإسلام؛ فأيسر الأمرين في هذا الباب أكثرهما مصلحة وأقلهما مفسدة.

     قال أبو العباس القرافي -عند كلامه على الفرق بين قاعدة الأئمة وقاعدة آحاد الناس في التخيير-: وأما التخيير بين الخصال الخمس في حقِّ الأسارى عند مالك ومن وافقه، وهي القتل والاسترقاق والمنّ والفداء والجزية، فهذه الخصال الخمس ليس له فعل أحدها بهواء؛ ولا لأنها أخف عليه، وإنما يجب عليه بذل الجهد فيما هو أصلح للمسلمين».

     وقد تضافرت أدلة الشريعة على أن الإمام إذا خُيّر بين أمرين عند تعامله مع الكفار؛ فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين؛ كما في حادثة الأسرى؛ فقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم  الفداء وشاور أصحابه: فكان رأي أبي بكر الصديق  الفداء أيضًا، وكان رأي عمر بن الخطاب  قتل الأسرى؛ فنزل قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(الأنفال:67 ).

     وقد روى أهل التفسير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير الآية، قال: وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتدّ سلطانهم، أنزل الله تبارك وبعد هذا في الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}(محمد:4)؛ فجعل الله النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار، إن شاؤوا قتلوهم، وإن شاؤوا استعبدوهم، وإن شاؤوا فادَوْهم، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الأسرى- اختار أولًا ما كان أسهل وأيسر؛ لأنه ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، لكن الأصلح للمسلمين في ذلك الوقت ألا يكون لهم أسرى حتى يُثخِن في الأرض ثم خُيّر بعد ذلك بين الفداء، أو القتل، أو ما فيه مصلحة للمسلمين، قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}(محمد: 4).

     قال الشنقيطي: «وأكثر أهل العلم يقولون: إن الآية ليست منسوخة، وأن جميع الآيات المذكورة محكمة؛ فالإمام مخيّر وله أن يفعل ما رآه مصلحة للمسلمين، من منّ وفداء وقتل واسترقاق، والمقصود أن أيَّ تخيير مع الكفار ينبغي أن يكون مبناه على المصلحة، وأنّ هذا التخيير من خاصّية الإمام ومنوط به، وهو في اختياره هذا يكون مجتهدًا؛ إذ الأصل أن تصرفات الإمام منوطة بالمصلحة، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإن الإمام إذا خُير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء؛ فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين فيكون مصيبًا في اجتهاده حاكمًا بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة».

     وهناك أمور ينبغي على ولي الأمر أن يغلب فيها جانب العقاب والزجر؛ إذ لا تظهر المصلحة في بعض أنواع الانتصار إلا بالمعاقبة والردع، كسبِّ  النبي صلى الله عليه وسلم  وشتمه؛ لأن ضرر السب في الحقيقة إنما يعود إلى الأمة بفساد دينها وذل عصمتها وإهانة مستمسكها، وإلا فالرسول -صلوات الله عليه وسلامه- في نفسه لا يتضرر بذلك، وقد ظهر من هذين الأصلين أن الدفاع الممدوح عن نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم شرعا وعقلا يكون بالشجاعة والسماحة واستطلاب المصلحة.

وفق الله أئمة المسلمين وحكامهم للاتصاف بهذه الخصال، وأعانهم على القيام بواجب النُّصرة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ، وفتح عليهم من أسباب طاعته ومرضاته.

     فإن قيل: إنه قد يتعذر- في وقتنا الحاضر - في بعض البلاد والأمصار وجود أئمة يقومون على أمر الدين – نصرةً وجهاداً – في وقت قد تكالبت فيه قوى الشّر على نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم  بالطعن والاستهزاء؛ فما الحل للخروج من هذا المأزق؟ 

فالجواب أن يقال :

     إن إحسان الظن بأئمة المسلمين وحكامهم مطلوب على الدوام؛ ففي الأمة خيرٌ كثير وعطاءٌ وفير, لكن يحتاج إلى تفعيل وتثوير؛ كما أخبر الصادق الأمين: «مثلُ أمتي مثلُ المطر، لايُدْرى أوّله خيرٌ أم آخره»، وعند تعذر الكمال فيصار إلى الأمثل فالأمثل منهم، ثم إذا تعذر الكمال في آحادهم ، فقد يعوّض بتعاون المجموع واجتماعهم على كلمة سواء.والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك