رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 30 يوليو، 2019 0 تعليق

الضابط السابع عشر – الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – الهواء تابعٌ للقرار


القرار: من قرَّ يقَرُّ، قال ابن فارس: «القاف والرّاء أصلان صحيحان؛ يدلّ أحدُهما على بَرْدٍ، والآخر على تَمَكُّنٍ، ومن الباب: القَرُّ، صَبُّ الماء في الشيء، يقال: قَرَرْتُ الماء، والقَرُّ: صَبُّ الكلام في الأُذُن، ومن الباب: القَرْقَرُ: القاع الأملس، ومنه القُرَارَةُ: ما يلتزق بأسفل القِدْر، كأنّه شيءٌ استقرّ في القِدْر»، و«القرار: المستقرّ من الأرض»، وعلى هذا المعنى وردت في كلام الله -تعالى-، قال -سبحانه-: {أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا...} (النمل: 61)، وقال -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاءً...} (غافر: 64).

     فسطح الأرض، وبطنها، كلاهما مستقَرٌّ لمن يصلحُ له القرار عليها أو فيها، كما قال -تعالى-: {...وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (البقرة: 36)، وعلى ما مضى، فمعنى هذه القاعدة: ما فوق الأرض من الهواء، فهو تابعٌ لها في حكمه. وقد ذكر الزركشيُّ هذه القاعدة بقوله: «الهواءُ في الأرضِ والبناءِ تابعٌ لأصلِه»، ثمّ شرحها بقوله: «فهواءُ الطَّلْقِ طَلْقٌ، وهواءُ الوقْفِ وقْفٌ، وهواءُ المسجد مسجدٌ، وهواءُ الشارعِ المشتركِ مشتركٌ، وهواءُ الدّارِ المستأجرةِ مستأجرٌ»، وذكرها القرافي بلفظ: «حكمُ الأهويةُ حكمُ ما تحتها».

تعليلات الفقهاء

     وقد وردت هذه القاعدة في تعليلات الفقهاء كثيراً؛ إذ علّلوا بها أحكامَ جملةٍ من الفروع الفقهيّة في أبوابٍ شتّى. ومن أمثلة ذلك: قال الموفّق: «فصلٌ: وإنْ صلّى على سطح الحُشِّ أو الحمّام أو عَطَنِ الإِبِل أو غيرها، فذكر القاضي أنّ حكمَه حكمَ المصلِّي فيها؛ لأنّ الهواءَ تابعٌ للقَرار، فيثبُت فيه حكمُه، ولذلك لو حَلَفَ لا يدخل داراً، فدخلَ سطحَها، حَنَثَ، ولو خرجَ المعتكفُ إلى سطحِ المسجدِ كان له ذلك؛ لأنّ حكمَه حكمَ المسجد».

إشراع الميزاب

     وقال الكاساني: «ولأبي حنيفة -رحمه الله-: أنّ إشراع الجناح والميزاب إلى طريق العامّة تصرُّفٌ في حقِّهم، لأنّ هواءَ البُقْعَةِ في حكم البُقْعَةِ، والبقعة حقُّهُم، فكذا هواؤُها، فكان الانتفاعُ بذلك تصرُّفًا في حقِّ الآخر، وقد مرَّ أنَّ التصرُّف في حقِّ الآخر بغير إذْنِه حرامٌ، سواء أضَرَّ به أم لا»، وقال ابن العربي المالكي: «البيت عبارةٌ عن قاعةٍ وجدارٍ وسقفٍ وبابٍ، فمن له البيت فله أركانُه، ولا خلافَ في أنّ العلو له إلى السماء».

مجلّة الأحكام العدليّة

وقد جاءت القاعدة في مجلّة الأحكام العدليّة شاملةً بصيغة: «كلُّ من مَلَكَ مَحَلًّا يملكُ ما فوقَه وما تحتَه أيضاً، إذا لم يكن ما فوقه وما تحته ملكاً للآخر»، وهذا تذييلٌ مهمٌ، يقيّد القاعدة، وسيأتي بيانُ هذا القيد -إن شاء الله.

امتداد الحكم

     والإشارة إلى امتداد الحكم إلى ما تحت الأرض مقرَّرٌ في كلام عامّة الفقهاء أيضاً، فمن ذلك: قال الإمام الشافعي: «ولا يجوزُ أن يقسم الرجلُ الدّار بين القوم، فيجعلُ لبعضهم سُفْلًا، ولبعضهم عُلْوًا؛ لأنّ أصلَ الحكم أنّ من مَلَكَ السُّفْلَ مَلَكَ ما تحته من الأرض، وما فوقَه من الهواء».

     وقال الزركشي: «قال القاضي الحسين والإمام وغيرهما من الأصحاب: من مَلَكَ أرضاً، مَلَكَ هواها إلى عنان السماء، وتحتها إلى تُخوم الأرض»، وقال التُّسُولي: «وهذا يفيدُ أنَّ من مَلَكَ أرضاً يملكُ هواءَها إلى ما لا نهاية له، ولذا جاز له بيعُه، وكذا يملك باطنها على المعتمد»، وقال الموفّق: «صاحبُ القرار يملكُ قرارَها وهواءَها».

تطبيق هذه القاعدة

     وممّا يُضبط به تطبيق هذه القاعدة، أنّ الهواء يأخذ حكم القرار، إذا كان ما فوقَ القرار مشمولاً بالاسم نفسه، وله طبيعته نفسها، فإذا جرى العُرف على أنّ له الاسم نفسه كان له الحكم نفسه، أمّا إذا كان للقرار اسمٌ خاصٌّ به يُلمَح فيه معنىً خاصّ لا يتعدّى إلى الهواء الذي فوقه، فإنّ ما فوقه لا يأخذ حكمَه، وقد حرّر شيخ الإسلام هذا المعنى بدقّة، فقال: «قال كثيرٌ من أصحابنا؛ منهم القاضي وأكثر أصحابه كالآمدي وابن عقيل وغيرهم: لا فرقَ في الحمّام والحُشّ وأعطان الإبل بين سُفْلِهَا وعُلْوِها؛ لأنّ الاسمَ يتناوَلُ الجميع، والحكم معلَّقٌ بالاسم.

سطح الحُشّ والحمام

     وأما أبو الخطاب فلم يمنع من هذه السطوح إلا من سطح الحُشّ والحمام خاصة، وهذا أجود ممّا قبله؛ لأنّ الحُشّ والحمّام اسمٌ لبناءٍ على هيئةٍ مخصوصةٍ لا تُتَّخَذ إلا لما بُنِي له، حتى لو أُريد لاتّخاذه لغير ذلك لَغُيِّرَ عن صورته، فكان الاسمُ متناولاً لجميعه، وهو قد عُدَّ لشيءٍ واحدٍ، بخلافِ العَطَن، فإنّه اسمٌ لما تقيم فيه الإبل وتأوي إليه، لا يختصّ ببناءٍ دون بناءٍ، حتى لو اتُّخِذ عَطَنُها مراحاً للغنم جازت الصلاة فيه مع أنّ صورتَه باقية، وعلو العَطَنِ ليس مُتَّخَذًا للإبل، ولا مبنيًّا لذلك بناءً يخصُّه، فلا يُلحق به.

الصلاة على علو

     ومن أصحابنا من قال بجواز الصلاة على علو جميع هذه المواضع، وهو ظاهر كلام كثير من أصحابنا؛ لأنّ ما فوق سقف الحُشّ والحمّام قد لا يدخل في النهي لفظًا و لا معنىً؛ لأنّ الاسمَ قد لا يتناوله، فإنّه لو حلف لا يدخل حُشًّا ولا حمّامًا لم يحنث بصعودٍ على سطح حُشٍّ أو حمّام، بخلاف من حلف لا يدخل داراً؛ لأنّ الحُشَّ والحمّام ونحوَهما أسماءُ لأماكن مُعَدَّةٍ لأمورٍ معلومة، وظهورها ليست من ذلك في شيء، وكونُها مظِنّة النّجاسة أو مظِنّة الشياطين لا يتعدّى إلى ظهورها، والهواء تَبَعٌ للقرار في الملك ونحوه، أمّا أنّه يتبعه في كلِّ شيءٍ فليس كذلك».

وهذا تمييزٌ حسنٌ، لكون الهواء يُلحق حكماً بالقرار إذا لم يقم داعٍ للتمييز بين حكمَيْهِمَا، لاختصاص القرار بطبيعةٍ وصفةٍ لا تتعدّى إلى الهواء أحياناً، وقد مثّل له شيخ الإسلام بالحمّام.

العلو إنما يتبع القرار

     وقد نصّ -رحمه الله- صراحةً على ذلك فقال: «...لأنّ العلو إنما يتبع القرار في حكمه إذا لم يُمَيَّز عن السُّفْل، بل يُجعل سقفاً له فقط، فأمّا إذا أُعدَّ لشيءٍ غيرِ ما أُعِدَّ له السُّفْلُ لم يكن طريقاً ألبتّة، كالمسكن والمسجد المبنيِّ على ظهر السقاية ونحوها، فإنّه ليس بسقاية».

الفقه فيه ظاهر

     وقال: «...والفقه فيه ظاهر، فإنّ العلو إذا اتُّخِذ لشيءٍ آخر غيرِ ما اتُّخِذ السُّفْل له لم يكن أحدُهما بأن يُجعل تابعاً للآخر بأَوْلى من العكس، وإنّما يُجعل تابعاً له عند الإطلاق، ألا ترى أنه لو قال: بعتُك هذا الحُشّ -وفوقه مسكنٌ أو مسجدٌ- لم يدخل في مطلق البيع! بخلاف ما لو كان ظهرُه خالياً.

     ولأنّ الهواءَ إنّما يتبعُ القرارَ في العقود عند الإطلاق، فإذا قُيِّد العقد بأن قيل: بعتك التحتانيّ فقط، لم يدخل، واتّخاذ العلو لأمرٍ آخر غيرِ ما اتُّخِذ له السُّفْل بمنزلةِ إخراجِه عن كونه تابعاً له في القول، و تقييدٌ له بصيغةٍ توجب الانفراد، ولو حلفَ لا يدخل حُشًّا أو عَطَناً أو مزبلةً أو حمّامًا، فدخل مسجداً مبنيًّا على ظهور هذه الأشياء، لم يجز أن يُقال: إنّه يحنث في يمينه».

اتّحاد الملك

ومن ضوابط إلحاق الهواء بالقرار أيضاً: اتّحاد الملك، فلو تميّز مالك العلو عن مالك السُّفل لم يكن ممكناً أن يُلحق به، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة، وكذا الكاساني.

     وقال الموفّق: «إذا حَصَلَتْ أغصانُ شجرتِه في هواءِ ملك غيره، أو هواء جدارٍ له فيه شركة، أو على الجدار نفسِه، لزم مالك الشجرة إزالةُ تلك الأغصان، إما بردّها إلى ناحية أخرى، وإما بالقطع؛ لأنّ الهواء ملكٌ لصاحب القرار، فوجب إزالةُ ما يشغله من ملكِ غيرِه، كالقرار».

إلحاق الهواء بالقرار

     وممّا تُقيّد به القاعدة أيضاً، أنّ إلحاق الهواء بالقرار في الحكم، مشروطٌ باتّصال الهواء بالقرار، بألا يفصل بينهما فاصلٌ، وهذا متّصلٌ بدوره باتّحاد المالك أو اختلافه، كمن كانت له دارٌ من طابقين، فجعل أسفلها مسجداً، فإنّ الهواءَ ليس وقفاً، لأنّه هواء المملوك، لا هواء المسجد.

حقّ هذه القاعدة

     وبكلّ حالٍ، فإنّ حقّ هذه القاعدة أن تكون فرعاً من فروع قاعدة: التابع تابع؛ لأنّ موضوعها هو تبعيّة الهواء للقرار في الحكم، ولمّا كانت الحاجة -بل الضرورة- حاصلةً في تملُّك الهواء الذي فوق الأرض أو البناء، فإنّ من القواعد التي تندرج تحت قاعدة «التابع تابع» قولهم: «من ملكَ شيئًا ملكَ ما هو من ضروراته»، فبهذا يظهر تعلُّق هذه القاعدة بقاعدة التوابع.

تطبيقات القاعدة

1- يُمنَعُ بيعُ هواء المساجد والأوقاف إلى عنان السماء لمن أراد أن يغرسَ خشباً حولها ويبني على رؤوس الخشب سقفاً وبنياناً.

2- هواء المسجدِ مسجدٌ، فيكون وقفاً مثله، ويأخذ حكمَه.

3- هواء الوقف وقفٌ مثله، سواءً كان مسجداً أو غيره.

4- التوسعات التي حصلت في الحرمَيْن الشريفَيْن، والمسعى، رأسيًّا ببناء الطوابق العلوية، كان الاعتماد فيهما بشكلٍ كبيرٍ على ما تقتضيه هذه القاعدة، لأنّ هواء المشاعر المقدّسة له حكم قرارها.

5- من وقف مسجداً، ثمّ ضاق المسجد على المصلّين، كان ما يُبنى فوقه من الأدوار العلويّة له حكم ما تحته.

6- من صلّى في الأبراج والفنادق المحيطة بالكعبة المشرّفة، وهي أعلى منها بكثير، صحّت صلاته بالاتّفاق، مع كونه يستقبل -حسّاً- الهواءَ الذي فوق الكعبة ولا يستقبل عينها.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك