رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 30 سبتمبر، 2019 0 تعليق

الضابط الحادي والعشرون – الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – الوقف على الأبرار أولى من الوقف على غيرهم


باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه؛ ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة، فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة الضابطة لباب المصالح والمنافع خاصة، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم كلّ ذلك على هيئة ضوابط خاصّة بباب الوقف، وهو ما سنتناوله في هذه السلسلة المباركة -إن شاء الله-، واليوم مع الضوابط المتعلّقة بالموقوف عليه والضابط الثالث منها وهو: حُسن الأدب في الظاهر عنوان حُسن الأدب في الباطن.

أصل هذه العبارة من مقولة الإمام الزاهد السّالك: الجُنيد بن محمد - رحمه الله-، وأصلُ إيرادها في ضوابط الوقف أشبه بالاستطراد، لكنه استطرادٌ مفيدٌ مؤثّر، لتعلُّق هذا المعنى باختيار الواقف لشريحة الموقوف عليهم.

قصد القُرْبَة

     فقد تقدّم أنّ الوقف يُلحَظ فيه قصد القُرْبَة على الصحيح، كما تقدّم أنّ الوقف على الأبرار والإحسان إليهم أولى من كون ذلك مع غيرهم، ولمّا كان من قطعيّات هذه الشريعة المتينة المحكمة ألا سبيل إلى بلوغ علم الآدميّ بواطنَ أقرانه من البشر، أقام الشّرعُ أماراتٍ وعلاماتٍ على بواطن الخلق من ظواهرهم، يُعرف بها -على سبيل التفرُّس والتوسُّم والاستئناس بالقرائن- بعض ما يبطنون، ومن ذلك: اكتفاء الشّرع بما يُظهر النّاس في أفعالهم وأقوالهم من الصّلاح، عن التنقيب عن بواطنهم، ومنح هذه الظواهر اعتباراً وأهميّةً وسلطاناً في الأحكام، ومن هنا بحث أهل العلم طويلاً مسألةً متصلةً بالعقائد، وهي مسألة التلازم بين الظاهر والباطن، وأفاضوا في تقريرها وضبطها، لكثرة ما يترتب عليها من أحكامٍ في دنيا الإنسان وآخرته.

التلازم بين الظاهر والباطن

     وعليه؛ فهذا الضّابط مرشدٌ للواقف، أنّه إذا كانت تعنيه شريحةٌ من الصّالحين، يتقرّب إلى الله -تعالى- بالوقف عليهم، كالقرّاء والعلماء وطلبة العلم والحُفّاظ والمحدّثين والزهّاد، ونحو ذلك، فإنّ عليه أن يرمُق ظواهرهم وما تدلّ عليه من صلاح واستقامة، ويجعل ذلك دليلاً على بواطنهم، إعمالاً لأصل حُسْن الظنّ بالنّاس، وأنّهم لو لم يكن باطنهم صالحاً ما صلحت ظواهرهم؛ إذ الأصل البراءة من الكذب والنّفاق، والسّلامة من الغشّ والمخادعة.

حديث جبريل

     وقد استدلّ بعض أهل العلم لهذا المعنى بأدلّة كثيرةٍ، منها حديث جبريل، فقد جاء في وصفه لمّا جاء على هيئة رجلٍ ليعلّم المسلمين دينهم أنّه كان «شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منّا أحدٌ»!، قال ابن علّان: «قال بعض المحقّقين: طلوعه كذلك يقوّي معنى قولهم: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن؛ ولذا استُحبَّ التزيُّن في الجمعة والعيد».

     والحديث يشير إلى أنّ مقدم جبريل -عليه السلام- إلى النبيّ  - صلى الله عليه وسلم - على تلك الهيئة المحبوبة اللّائقة، التي لا تتحصّل للإنسان إلّا بنوعِ كُلْفةٍ، ومع التحرّي والتعنّي في الاختيار، دليلٌ على أنّ هذا الأدب الظاهر مطلوبٌ، وأنّه دليلٌ على التعظيم والتوقير والاحترام؛ ولهذا المعنى استُحبّ التزيُّن للجمعة والعيد؛ لأنّهما شعيرتان يُطلب في الشّرع تعظيمهما.

الوجه الآخر لقلبه

فـ «إنّ ظاهر العبد -عند أهل السنة والجماعة- هو الوجه الآخر لقلبه وباطنه، وأنه انعكاس مباشر له لا يتخلف عنه ولا يغايره، وإذا كان الباطن صالحاً كان الظاهر كذلك، وإذا كان الباطن فاسداً كان الظاهر كذلك فاسداً بحسبه؛ لأن الإيمان أصله في القلب، وهو:

- قول القلب من المعرفة والعلم والتصديق.

- عمل القلب من الإذعان والانقياد والاستسلام.

ولكن من لوازم هذا الإيمان -إذا تحقق في القلب- تحقيقها في الظاهر؛ فالظاهر لا يتخلف عن الباطن ولا يضادّه؛ لأنه ترجمان الباطن، ومرتبط به ارتباطاً وثيقاً.

فالظاهر والباطن متلازمان، لا يكون الظاهر مستقيماً إلا باستقامة الباطن، وكذلك العكس.

الإيمان المطلوب

     والإيمان المطلوب شرعاً هو الإيمان الظاهر والباطن، وتلازم عمل القلب بعمل الجوارح؛ لأنه لا يصحّ إيمان العبد بواحدة دون الأخرى؛ فمن زعم وجود العمل في قلبه دون جوارحه لا يثبت له اسم الإيمان؛ لأن الأعمال والأقوال الظاهرة من لوازم الإيمان التي لا تنفك عنه، قال الله -تبارك وتعالى-: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}...»، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خصلتان لا تجتمعان في منافق؛ حُسْنُ سَمْتٍ، ولا فقهٌ في الدّين».

قال الزمخشري: «حُسْنُ السَّمْت: أَخذُ النهج ولُزُوم المحجّة، وسَمَتَ فلانٌ الطَّرِيق يسمت...

وَأنْشد الْأَصْمَعِي لطرفة:

خواضعُ بالرُّكْبان خُوْصاً عيونُها

وهنَّ إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق سوامِتُ

     ثمَّ قَالَ: مَا أحسن سمتَه؛ أَي: طريقته التي ينتهجها في تحري الخير والتزيّي بزيّ الصَّالِحين»، فأنتَ ترى أنّ من كانت سجيّته أن يتشبّه بالصّالحين، له نصيبٌ من البراءة من النّفاق، وقد دلّ الشّرع على مصداقيّة دلالة ظاهره على باطنه في هذه الصورة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمّته» قال الحافظ: «وفيه: أنّ أمورَ النّاس محمولةٌ على الظّاهر، فمن أظهر شعار الدّين أُجْرِيَت عليه أحكامُ أهله ما لم يظهر منه خلافُ ذلك».

الصلاة خلف كل مسلم

     وقال شيخ الإسلام: «... وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتّفاق الأئمّة الأربعة وسائر أئمّة المسلمين، فمن قال: لا أصلّي جمعةً ولا جماعةً إلّا خلفَ من أعرفُ عقيدتَه في الباطن، فهذا مبتدعٌ مخالفٌ للصّحابةِ والتّابعين لهم بإحسانٍ وأئمّة المسلمين الأربعة وغيرهم، والله أعلم».

معاملة الناس

     وقال الخطّابي: «في هذا الحديث من العلم أنّ أمور الناس في معاملة بعضهم بعضاً إنّما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأنّ من أظهر شعار الدّين، وتحلى بشمائل أهلِه أُجْرِي على أحكامهم، ولم يُكْشَف عن باطن أمره، فلو أنّ رجلاً وُجد في جماعة يصلّون في مسجدٍ، أو كان في رفقة مسافرين، يصلي معهم الصلوات في أوقاتها مستقبلاً قبلتهم، وقد رأوه يأكل معهم من ذبائحهم، ومن أطعمتهم، ثم مات ولم يعرفوه باسمٍ أو نسبٍ ولا اعتقادِ دينٍ أو مذهبٍ، كان الظّاهر من حكمه أنّه مسلمٌ، والواجبُ في حقّه أنْ يصلّى عليه إن مات، وأن يُدفن في مقابر المسلمين، وأنْ يُحفظ دمه وماله ما دام حيًّا فيهم ومعهم.

     وكذلك لو لم يُعرف رجلٌ غريبٌ في بلدٍ من بلدانِ أهلِ الإسلام بدينٍ أو مذهبٍ، غيرَ أنّه يُرى عليه زيّ المسلمين ولباسُهم، حُمل ظاهرُ أمرِه على أنّه مسلمٌ حتى يظهر خلاف ذلك، ولو وُجد مختونٌ بين ظهرانَيْ قتلى قُلْفٍ كان حقُّه أن يُعزل عنهم في التربة والمدفن. وإذا وُجد لقيطٌ في بلد المسلمين كان حكمُه حكمَهم، وإنْ كان فيه أهل ذِمَّةٍ فادّعاه رجلٌ منهم أُلْحِقَ به في النَّسَب، وأُبْقِيَ في الدِّين على حكم الدّار»، وفي الجملة، فهذا المعنى ثابتٌ في الشّرع على وجه القطع، وهو أنّ الأصل اعتبار الظّاهر في النّاس.

تطبيقات القاعدة

1- من وقفَ على الزهّاد، فلا شكّ أنّه يقصد الزهّاد حقيقةً لا من تزيّا بزيّهم وليس منهم، إلّا أنّه يُكتفى في صرف ذلك الوقف بمن ظهر عليه الزهد، واشتهر بذلك، من غير تفتيش ولا تنقيبٍ عن حقيقة حاله، فظاهره يكفي لاستحقاقه من الوقف.

2- من وقفَ على حفظة القرآن الأتقياء، اكتُفي في الاستحقاق بمن ظهرت عليه أمارات التقوى، من غير بحث عن خفاياه ولا أسراره وشؤونه الباطنة.

3- من وقفَ على فقراء بلدِه من المسلمين، وكان في تلك البلد رجلٌ فقيرٌ -أو أسرةٌ فقيرةٌ- على ظاهره الإسلام، استحقّ هؤلاء من الوقف لتوفُّر الوصفَيْن فيهم، وهما الفقر والإسلام، ويُكتفى في الإسلام بالظاهر دون التنقيب عن المستور في البواطن.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك