رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 20 يونيو، 2019 0 تعليق

الضابط الثالث عشر – الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – لا يصحُّ وقف ما لا يُنتفَع به

 

باب الوقف من الأبواب المهمة التي من الأهميّة تقرير ضوابطه، ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة، الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم كلّ ذلك على هيئة ضوابط خاصّة بباب الوقف، وهو ما سنتناوله في هذه السلسلة المباركة -إن شاء الله-، واليوم مع الضوابط المتعلّقة بالعين الموقوفة، ومنها ألا يصحّ وقف ما لا يُنتفَع به.

     لقد مضى تقرير أنّ «الراجح صحّة وقف المنافع المباحة ولو دون الأعيان»، وبيّنّا في ذلك الضابط مدى ملاحظة قضيّة المنفعة والانتفاع في باب الوقف، وهذا الضّابط هو أشبه بمفهوم المخالفة للمعنى الذي سبق تقريره؛ فإنّ الوقف إنّما يُراد لمنفعته، كما تقرّر أيضاً في الضابط العام: «بذل المال لا يجوز إلا لمنفعةٍ في الدّين أو الدّنيا».

قال أبو القاسم الخرقي: «وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف؛ مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب، فوقْفُه غيرُ جائز».

     قال الموفّق في بيانه: «وجملتُه أنّ ما لا يمكن الانتفاعُ به مع بقاء عينه؛ كالدّنانير والدّراهم، والمطعوم والمشروب، والشّمع، وأشباهه، لا يصحّ وقفه، في قول عامة الفقهاء وأهل العلم، إلا شيئاً يُحكى عن مالك والأوزاعيّ في وقف الطعام، أنّه يجوز، ولم يَحْكِهِ أصحابُ مالك، وليس بصحيح؛ لأنّ الوقف تحبيسُ الأصلِ وتسبيلُ الثّمرة، وما لا يُنتفع به إلا بالإتلاف لا يصحّ فيه ذلك».

اشتراط أهل العلمِ للمنفعة

     والنّاظر في هذه الكلمات بدقّةٍ، يبصر دلالتها على اشتراطِ أهلِ العلمِ للمنفعةِ في المال الموقوف من باب أَوْلى؛ لأنّ الخلافَ الذي يحكيه الموفّق عن مالكٍ والأوزاعيّ، ليس خلافاً في اشتراطِ المنفعةِ، بل خلافٌ في اشتراطِ التأبيد؛ فصحّ أنّ المنفعةَ في المال الموقوف شرطٌ معتمدٌ بإجماع أهل العلم، وصحّ لنا بأنّ من اشترط المنفعة المؤبّدة كان مشترطاً لأصل المنفعةِ بداهةً، وهذا جليٌّ ظاهرٌ للجميع.

     وقد قال شيخ الإسلام مظهراً لهذا المعنى: «لم يُرِدْ به أنّه لا منفعة بها بحال؛ فإنّ التحلِّي منفعةٌ مباحة، ويجوز استئجار من يصوغ الحِلْية المباحة، ولو أتلفَ متلِفٌ الصياغةَ المباحة ضَمِنَ ذلك، وقد نصّ أحمد على ذلك، ولو لم يكن منفعةٌ لم يصح الاستئجارٌ عليها ولا ضُمِنَت بالإتلاف، بل أرادَ نفْيَ كمال المنفعةِ، كما يُقال: هذا لا ينفع! يُراد أنّه لا ينفع منفعةً تامَّةً.

ويدلُّ على ذلك قولُه: ويشتري بثمنها ما هو أنفع للمسلمين؛ فدلّ على أنّ كليهما سائغٌ، والثاني أنفع؛ ولأنّه لو لم تكن فيه منفعةٌ بحالٍ لم يصحّ وقفُه؛ فإنّ وقْفَ ما لا يُنتفع به لا يجوز».

     وقال الموفّق: «فصلٌ: ولا يصحُّ وقفُ ما لا يُنتَفَعُ به مع بقاء عينه، كالأثمان، والمأكول والمشروب، والشّمع؛ لأنّه لا يحصل تسبيل ثمرته مع بقائه، ولا ما يسرع إليه الفساد، كالرياحين؛ لأنها لا تتباقى، ولا ما لا يجوز بيعه؛ كالكلب، والخنزير، ولا المرهون، والحمل المنفرد، ولا أمّ الولد؛ لأنّ الوقف تمليك، فلا يجوز في هذه، كالبيع».

     وقال: «فصلٌ: وإنْ وقَفَ نخلةً فيبست، أو جذوعاً فتكسّرت، جاز بيعُها؛ لأنّه لا نفعَ في بقائها، وفيه ذهاب ماليّتها؛ فكانت المحافظةُ على ماليّتها ببيعِهَا أَوْلَى؛ لأنّه لا يجوز وقف ما لا نفع فيه ابتداءً؛ فلا يجوز استدامةُ وقْفِه؛ لأنّ ما كان شرطاً لابتداء الوقف، كان شرطاً لاستدامته، كالماليّة، وإذا بيعت، صُرِفَ ثمنُها في مثلها، وإنْ حبس فرساً في سبيل الله؛ فصارت بحيث لا يُنتفع بها فيه، بِيعت، لما ذكرنا، وصُرِفَ ثمنُها في حبيسٍ آخر.

     وإنْ وقف مسجداً فخرب، وكان في مكان لا يُنتفع به، بيع، وجُعل في مكانِ ينتفع به، لما ذكرنا، وكلُّ وقف خرب ولم يَرُدَّ شيئاً بِيع واشتُري بثمنه ما يُرَدُّ على أهل الوقف، وإنْ وقف على ثَغْرٍ فاختلّ صُرِفَ إلى ثغرٍ مثله؛ لأنّه في معناه»، ومعنى ملاحظة المنفعة ظاهرٌ في كلّ ذلك، وإنْ كان النقل متّسقاً مع مذهب الحنابلة في اشتراط التأبيد، كما هو قول الجمهور، وقد تعرّضنا لهذه المسألة سابقاً.

 وقْف الدّار المستأجَرة

     قال القرافي: «ويمتنعُ وقْف الدّار المستأجَرة لاستحقاقِ منافعها للإجارة؛ فكأنّه وَقَفَ ما لا يُنتفع به، ووقْف ما لا يُنتفع به لا يصح»، هذا، ومعلومٌ عند أهل العلم أنّ المنفعة في العين هي التي يدور عليها كلام عامّة الفقهاء في الحُكم بماليّة تلك العين، وهذا قَدْرٌ لو تأمّلناه لوجدناه متفقاً عليه بينهم مهما اختلفت عباراتهم في حدّ المال كما هو معروفٌ في مظانّه، وهم جميعاً يشترطون في الموقوف أن يكون مالاً، وهذا فيه بيان أهميّة أن يكون نافعاً، وعلاقة ذلك بصحّة وقفه.

قال الإمام الشافعي: «المالُ اسمٌ لما تميل إليه النّفس، مخلوقٌ لمصالحنا...وما لا يُنتفع به فليس بمالٍ».

إذا عُرف هذا؛ فإنّ ما لا منفعة فيه قد يكون: لحُرمته كالخمر، أو لقلّته كحبّة الأرز، أو لخسّته كالحشرات؛ فإنّ المنفعة في كلّ ذلك معدومةٌ أو كالمعدومة، إمّا حسًّا وإمّا حكماً؛ فهذا وما في معناه، لا يصحّ وقفُه، وهذا تلخيصٌ يغنينا عن الإطناب في التمثيل.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك