رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 19 ديسمبر، 2018 0 تعليق

الضابط الأول – صحة الوقف منوطة بأهلية الواقف

 باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه، ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة، الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم كلّ ذلك على هيئة ضوابط خاصّة بباب الوقف، وهو ما سنتناوله في هذه السلسلة المباركة إن شاء الله، واليوم مع الضابط الأول وهو صحة الوقف منوطةٌ بأهليّة الواقف.

 

معنى الضابط

- منوطة: أيّ معلّقة، من النَّوْط، قال ابن فارس: «النون والواو والطاء أصلٌ صحيح يدلُّ على تعليق شيءٍ بشيء. ونُطْتُه به: علَّقته به. والنَّوْط: ما يَتعلَّق به أيضاً، والجمع أنواط».

- الأهليّة: لغةً: هي الصلاحيّة للشيء، واستحقاق التعامل به على وجه صحيح، قال ابن عاشور: «وأهلُ الشّيءِ: مستحِقُّه، وأصلُه أنّه ملازمُ الشيءِ وخاصَّتُه وقَرَابَتُه وزوجُه، ومنه: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}»، قال -تعالى-: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (المدّثّر: 56)، وقال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح: 26).

- واصطلاحاً: «الصلاحيّة لوجوب الحقوق الشرعيّة له وعليه»، وهذه إحدى الأهليّتَيْن كما هو آتٍ قريباً، ويتمّ إدراك معنى الأهليّة اصطلاحاً بتعريف قسمَيْها عند الأصوليّين، فالأهليّة تنقسم إلى: أهليّة الوجوب، وأهليّة الأداء؛ فأهليّة الوجوب: «صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه»، وأهليّة الأداء: «صلاحية الإنسان لصدور الفعل منه على وجه يعتدّ به شرعاً».

     وأهليّة الأداء هي النّطاق التي يعمل فيه هذا الضابط، وهي موضوعه؛ ولذلك سنخصّها بالبيان؛ إذ مظانّ البحث المستوفى في شؤون الأهليّة معروفة في مطوّلات أصول الفقه، مع التّنويه إلى أنّ كِلَا نوعَيْ الأهليّة ينقسم إلى أهليّة ناقصة، وأهليّة كاملة، استناداً إلى الأطوار التي يمرّ بها الإنسان، من كونه جنيناً إلى مماته.

ومن المعلوم أنّ كلّ إنسانٍ تُكتَب له دورة الحياة الاعتياديّة، يمرّ بأربع مراحل، هي:

- المرحلة الأولى: الجنين، وليس للجنين أهليّة أداء في هذه المرحلة، لكمال عجزه عن التصرُّف.

- المرحلة الثانية: من الانفصال حيًّا إلى التمييز، وليس له أهليّة أداء في هذه المرحلة أيضاً؛ لأنّ التمييز هو أساس أهليّة الأداء، ولم يوجد فيه بعد.

- المرحلة الثالثة: من التمييز إلى البلوغ، وتثبت للصغير في هذه المرحلة أهليّة أداءٍ ناقصة، لوجود التمييز لكن مع نقصٍ في قدرات العقل في الأعمّ الأغلب، ويكون ثبوتُ هذه الأهليّة النّاقصةِ على تفصيلٍ مبنيٍّ على طبيعةِ التصرُّف وماهيّته، على النّحو الآتي:

1- العبادات المحضة: كالإيمان، وأركان الإسلام، وغيرها من العبادات البدنيّة، يصحّ من الصغير أداؤها إذا أدّاها، ولا تجب عليه؛ لأنّ فيها نفعاً محضاً له.

2- التصرُّفات الماليّة، وهي ثلاثة أنواع:

أ- تصرُّفاتٌ نافعةٌ نفعاً محضاً، كقبولِ الهديّة والهبة والوصيّة؛ فهذه تصحّ منه.

ب- تصرُّفاتٌ ضارَّةٌ ضرراً محضاً، وهي التي يبذل فيها المالَ بلا عِوَض، كالهبة والوقف ونحوهما، فلا تصحّ منه، ولا تنعقد أصلاً، ولا تؤثّر فيها إجازة الوليّ؛ لأنّ الوليّ لا يملك إنشاءها في حقّ الصغير، فلا يملك إجازتها.

ج- تصرُّفاتٌ متردِّدةٌ بين النّفع والضّرر، كسائر المعاوضات من بيع وإجارةٍ ونحوها؛ فهي محتملةٌ للنّفع أو الضّرر؛ فهذه يُقضى بانعقادها بناءً على ما يتمتّع به من أصل الأهليّة وإن كانت ناقصة، لكن نفاذها يبقى متوقّفاً على إجازة الوليّ الذي واجبه أن يتحقّق من وجود المصلحة من عدمها.

- المرحلة الرابعة: من البلوغ إلى الوفاة، وتكتمل في هذه المرحلة أهليّة الأداء.

من التفصيل السابق، يظهر أنّ البلوغ شرطٌ لانعقاد الوقف؛ إذ لا أهليّة لمن هو دون البلوغ لإنشاء تصرُّف ماليٍّ يضرّ بماله ضرراً محضاً.

وعليه فإنّ الشروط التي يجب أن تتوفّر في الواقف ليصحّ وقفُه عُبِّرَ عنها مجتمعةً بـ «أهليّة التبرُّع»، وهي أهليَّةٌ أخصُّ من مطلق الأهليّة تلزمُ لعقود التبرُّعاتِ جميعاً كالصّدقة والهبة والعطيّة والهديّة والوقف.

وأهليّة الواقف إجمالاً، هي أحد المحورين الرئيسن اللّذين يقوم عليهما البحث في تصحيح عقد الوقف، والثاني: الموقوف، لأنّ صحّة العقود أو فسادها معتبرٌ بالعاقد والمعقود عليه.

ويمكن تحليل أهليّة التبرُّع هذه إلى أربعة شروط:

أوّلاً: البلوغ

     فقد ذهب السّواد الأعظم من الفقهاء إلى اشتراطه، وإلى أنّ الصبيّ المميّز إذا وقف فلا يصحّ وقفه، وإن أجازَه الوليّ فلا أثر لإجازته. واشتراط البلوغ هو مذهب الحنفيّة، والمالكيّة، والشافعية، والمعتمد عند الحنابلة، وعن الإمام أحمد رواية تحتمل تصحيح الوقف من الصبيّ المميّز، وليست معتمدة، تخريجاً لذلك على صحّة إبرائه من الحقّ.

ثانياً: العقل

وقد اتفق الفقهاء على أنّ المجنون لا يصحّ منه الوقف حالَ جنونه وغياب عقله، وإنّما بحثوا بشيءٍ من التّفصيل حكم وقفه -كبحثهم لسائر تصرّفاته- إذا لم يكن جنونُه مطبقاً، بمعنى أنّه يُجنّ حيناً ويُفيق حينًا.

فذهب الجمهور إلى أنّ المجنون إذا كان يفيق أحياناً، فوقفُه في وقت إفاقته صحيح منعقد.

واختار بعض الحنفيّة التفصيل، فقالوا: لا يخلو حال المجنون الذي يغيب عقله أحياناً ويفيق أحياناً من أحد حالين:

فإمّا أن يكون لإفاقته وقتٌ معلوم، أو لا يكون، فإن كانت الأولى، فوقف في وقت إفاقته، فهو كالعاقل، وقفُه صحيحٌ منعقدٌ، وإن كانت الثانية، فوقفُه موقوفٌ على إجازة الوليّ.

ويُلحَق باسم الجنون في الحكم صور وأوصاف تُقارِبُه في تحقيق فسادٍ جزئيٍّ في العقل، مثل: العَتَه الشّديد، والخَرَف، والسَّفَه، والسُّكْر، والغضب الشديد المطبق على العقل، ونحو ذلك، وفيها تفاصيل واختلافات سنبيّنها على نحوٍ مجملٍ إن شاء الله.

1- العَتَه: «والمعتوه من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير، إلا أنّه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون»، هكذا عرّفه الحنفيّة. ومن هذا التعريف يظهر أنّ الحنفيّة يفرّقون بين العَتَه والجنون، في حين نجد الشافعيّة والحنابلة، وكذا المالكيّة، يسوّون بين المعتوه والمجنون، قال النّووي: «المعتوه نوع من المجانين»، وقال الموفّق: «المعتوه، وهو الزّائل العقل بجنون مطبق...»، وقال ابن رشد: «والمعتوه: الذاهب العقل»؛ وعلى هذا فحكم وقف المعتوه عند هؤلاء قد عُلم من حكم وقف المجنون عندهم، وقد تقدّم أنّه لا يصحّ. وذهب الحنفيّة بناءً على التّفريق بينه وبين المجنون بالفرق الذي تقدّم، إلى تصحيح انعقادِ وقفه مشروطًا بإجازة الوليّ؛ لأنّه كالصبيّ المميّز، والذي يظهر أنّه ملحقٌ عندهم بالمجنون الذي يفيق أحياناً، فمن هنا جعلوا صحّة وقفه موقوفةً على إجازة الوليّ.

2- الخَرَف: وهو «فساد العقل من الكِبَر»، وأكثر ما يستعمل عند الفقهاء في زوال العقل وغياب الإدراك والعجز عن التصرُّف الصّالح، لكنّه مخصوصٌ بكونه بسبب الكِبَر، ولذا فهو ملحقٌ بالمجنون في الأحكام، وقد تقدّم حكم وقف المجنون.

3- السُّكْر، قال المناوي: «السُّكْر: غفلةٌ تعرضُ لغلبة السّرور على النّفس بمباشرةِ ما يُوجِبُها، وقيل: ألا يعلم السّماء من الأرض والطّول من العرض، وقيل: أن يختلط كلامه المنظوم، وينهتك سرّه المكتوم، ذكره ابن الكمال وغيره، وفي «المفردات»: السُّكر: حالةٌ تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يُستعمل في الشراب المسكر، وقد يعتري من الغضب والعشق...». والسّكران إمّا أن يكون قد شرب أو أكل ما يزول به عقلُه عمداً، أو لا يكون كذلك، فإذا وقَفَ في حال زوالِ عقلِه وهو معذورٌ في ذلك الزّوال، لم يصحّ وقْفُه بالإجماع؛ لأنّه لا قصدَ له ولا نيّة، وعبارتُه وسائرُ عقودِه وتصرُّفاته القوليّة لا تصحّ.

     وأمّا إذا سَكِرَ مختاراً، فقد اختلف الفقهاء في حكم وقفِه، كما اختلفوا في سائر تصرُّفاتِه، والحقّ أنّ تصرُّفات السّكران تحتاج إلى تحرير نظريّة فقهيّة خاصّة بها؛ نظراً لكون منطلقات الفقهاء في تكييفها قد دخلتها اعتبارات كثيرة تتجاوز ذات التصرُّف، إلى ربطِه بمنحىً عقابيٍّ على فعلِه المحرّم، فألقى ذلك بظلاله على الترجيح في حكم تصرُّفاته القوليّة كالعقود الماليّة، والطّلاق والنّكاح، وتصرُّفاته الفعليّة، كجناياته وإتلافاته.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك