الشيخ فيصل غزاوي: العافية مِن أَجَلّ نِعَم الله على عبده بعد الإيمان واليقين
جاءت خطبة الحرم المدني بتاريخ 6 من شعبان 1442هـ - الموافق 19 / 3 /2021م، للشيخ فيصل غزاوي عن نعمة العافية؛ حيث أكد فيها كثرة نِعَم الله علينا وإحسانه إلينا؛ إذ أفاض نِعَمَه بلا عدّ ولا حدْ، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..} وقال -سبحانه- {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}.
نعمة العافية
ثم بين الشيخ غزاوي أنّ مِنَ النِّعَم التي قد لا يشعر بها كثير من الناس ولا يقَدرونها قدرها نعمة العافية، وما أدراك ما نعمة العافية؟ فكم مِنْ إنسان يرفل في ثوب العافية، ويتنعم بنِعَمٍ وافرة لكنه لا يشكر مَنْ أسداها إليه! بل ينسى المُنعِم بها عليه، ولا يُدرك قيمة العافية إلا مَنْ فقدها؛ فالعافية إذا دامت جُهِلت، وإذا فُقِدت عُرِفت لذّتها، وانكشفت مُتعتها، وقد قيل في الحكمة: العافية هي المُلك الخفي.
مفهوم العافية
وعن مفهوم العافية قال: العافية مفهوم واسع لا ينحصر في عافية الجسد، وصحة البدن كما قد يفهمه بعض الناس، بل هو يشمل الدنيا والآخرة. فقد ذَكَر بعض العلماء أنّ أظهر الأقوال في قوله -تعالى- {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. أنّ الحسنة في الدنيا العبادة والعافية، والحسنة في الآخرة الجنة والمغفرة، ولمّا عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجُلا مريضًا من المسلمين قال له: هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله إيّاه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعجّله لي في الدنيا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله! لا تُطيقه، أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؟ قال: فدعا الله له، فشفاه.
أجلّ نِعَم الله بعد الإيمان
وأضاف، العافية أهم ما يحتاجه المسلم بعد الإيمان واليقين، فلا غِنى له عنها أبدًا؛ فهي مِن أَجَلّ نِعَم الله على عبده وأجزل عطاياه وأَوْفَر منحه؛ فلا عَجَب أن يُكثر - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سؤال الله العافية، فمِن دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم متّعني بسمعي وبصري حتى تجعلهما الوارث مني، وعافني في ديني وجسدي»، وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر الناس ويوصيهم بسؤال العافية.
علّمني شيئًا أسأله الله -عز وجل
فعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: «قلت يا رسول الله، علّمني شيئًا أسأله الله -عز وجل-، قال: سل الله العافية، فمكثت أيامًا ثم جِئت فقلت: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله، فقال لي: يا عباس يا عم رسول الله، سل الله العافية في الدنيا والآخرة»، وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قام على المنبر، ثم بكى، فقال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الأول على المنبر، ثم بكى فقال: اسألوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدًا لم يُعط بعد اليقين خيرًا من العافية. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «سلوا الله العافية فإنه لم يُعْطَ عبد شيئًا أفضل من العافية».
وأرشد - صلى الله عليه وسلم - زوجته أم حبيبة -رضي الله عنها- بقوله: «ولو سألتِ الله أن يعافيكِ من عذابٍ في النار، وعذابٍ في القبر لكان خيرا لكِ..»، وكان - صلى الله عليه وسلم - يدعو بالعافية في الصلاة وغير الصلاة، ففي الصلاة كان يدعو في الجلسة بين السجدتين فيقول: «اللهم اغفر لي وارحمني، وعافني واهدني وارزقني».
مِن الأدعية المأثورة
ومن أدعية قنوت الوتر التي علّمها النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن - رضي الله عنه -: «اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت»، وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُنّة ثابتة كل يوم وليلة في طلب العافية من الله، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الدعوات حين يُمسي وحين يُصبح: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي».
الدعاء عند النوم
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول عند النوم: «اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفّاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أَمَتّها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية». وعندما يستيقظ المسلم من نومه يقول: «الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي وعافاني في جسدي وأذِن لي بذِكْره».
الدعاء للأموات وعند القبور
ويُسَن الدعاء بالعافية للأموات كذلك، فمِن دعائه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على الميت: «اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه». وعند زيارته - صلى الله عليه وسلم - القبور كان يقول: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية»، ومما تعوّذ منه - صلى الله عليه وسلم - تَبَدُّل العافية، فكان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك».
مِنّة الله بالعافية
لولا مِنّة الله بالعافية لتنغّص على العبد عيشه وتكدرت حياته، ولما استقامت ولَفَسَدَت، والمؤمن مع العافية يستشعر ما هو فيه مِنَ النِّعَم، ولا يزدري شيئًا منها، فيلهج لسانه دائمًا بحمد الله أنْ عافاه، حتى لو فاته مِنَ الدنيا ما فاته.
لا تأسف الدنيا على فائـــــت
وعندك الإسلام والعافية
إن فات شيء كنت تسعى له
ففيه ما من فائت كافيــة
مرض الشهوات والشبهات
ثم بين الشيخ غزاوي أنه قد يُسلب المرء العافية ويُحرمها، أو يُكدّرها تنغيص ونقصان، وهذا يكون في أمرين:
- الأمر الأول: في الدين، بالشبهات أو الشهوات، قال ابن القيم -رحمه الله-: القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه، إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات، هذا أصل داء الخلق إلّا مَنْ عافاه الله.
- أمّا الأمر الثاني مما يكون فيه سلب العافية أو نقصانها: فهو في الدنيا، بمرض جسد؛ كما يُفهم مِن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًا في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا».
وقد يكون ذلك بعدوان عدو مِن جِنْ وإنس، فعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا»، وقد يكون سلب العافية أو نقصانها في الأهل والمال، فمِن دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي».
حاجتنا إلى العافية
ثم أكد الشيخ غزاوي على حاجتنا الشديدة إلى التزام سؤال الله العافية في الدين والدنيا والآخرة، أمّا العافية في الدين فهو أن يَقِيَكَ مِن كل أمر يشين بدينك، أو يُخِل به، أو يخدش فيه من المصائب والفتن والشبهات والشهوات وغيرها مما يُؤثّر على العبد في دينه، ويتسبب في رِقَّته وإضعاف الإيمان في قلبه. فما أعظم أن يعافيك الله، ويُسَلّمك من هذه الأمراض، ويدفعها عنك حتى تستقيم على الصراط المستقيم، وتَثْبُت على الدين القويم!
العافية في الدنيا
وعن العافية في الدنيا قال الشيخ غزاوي هي أن يعافيك ويُسَلّمك مِن كل ما يُكَدّر العيش الدنيوي من هموم وأكدار وأحزان وآفات وأدواء وأسقام، وأمّا العافية في الآخرة، فهو أنْ يعافيك من فتنتها وعذابها وسعيرها، ويُنَجّيَك مِن أهوالها وشدائدها، فمَن رَزَقه الله العافية فقد نجا وأفلح وسَعِد وأنجح، ومَن أراد دوام العافية والسلامة فليتقِ الله -عز وجل-، فإنّ مَن اتقى الله لَبِس العافية وحَمِد العاقبة.
كل أمتي معافى إلّا المجاهرين
ثم بين أنَّ من الناس مَن غابت رقابة الله عنده، وضَعُفت خشيته في نفسه، فلم يَكُفّ جوارحه عن معصية ربه، والوقوع في مخالفة أمره، وقد يغتر بستر الله وإمهاله له وتُعْجِبُه معصيته، فيتباهى بها أمام الناس ويجهر بالموبقات، ويُعلن بها كأنه يدعو إليها غيره، فيُعاقبه الله بأن يهتك ستره وينزع عنه عافيته، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمتي معافى إلّا المجاهرين، وإنّ مِن المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يُصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عَمِلْتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويُصبح يكشف ستر الله عنه».
الخاسر المغبون
وكم مِن إنسان يُسَخّر نِعَم العافية الدنيوية في سخط ربّ البرية بأن يَتْرُك ما أمر الله به، ويتعدى حدوده ويرتكب معاصيه، فإذا نودي إلى الصلاة استهان بشأنها ولم يكن مِن أهلها، وإذا دُعِيَ إلى التزام ما أوْجب الله عليه، امتنع واستكبر، وأنكر على مَن أسدى النصح إليه.
الناس رجلان
وكم مِن إنسان تَحُفّه العافية وتغمره، فلا تخطر بباله الآلام والبلايا، ويَبْلغ به الأمر مداه في اتباع هواه بأن يَسْخَر مِن أهل البلاء، ولا يحمد الله أن سلّمه وعافاه. رُوِيَ عن عيسى -عليه السلام- أنه أوصى الحواريين بوصية منها قوله: «والناس رجلان، مُعافًا ومُبتلى، فارحموا أهل البلاء في بليّتهم، واحمدوا الله على العافية».
التوبة والدعاء قبل نزول البلاء
فما أحوجنا -ونحن مطمئنون في حصن العافية- إلى اليقظة والإفاقة والتوبة والإنابة والدعاء وقت الرخاء قبل نزول البلاء! قال عبد الأعلى التيمي -رحمه الله-: أكثروا سؤال العافية؛ فإنّ المُبتلى وإنْ اشتدّ بلاؤه ليس بأحق بالدعاء مِن المُعافى الذي لا يأمن البلاء، وما المُبتلون اليوم إلا مِن أهل العافية بالأمس، وما المُبتلون بعد اليوم إلّا مِن أهل العافية اليوم، فما يأمن مَنْ أطال المُقام على معصية الله، أنْ يكون قد بَقِيَ له في بقية عمره مِن البلاء ما يجهده في الدنيا، ويفضحه في الآخرة.
لاتوجد تعليقات