الشيخ عبد المحسن القاسم: من فضائل النبي – صلى الله عليه وسلم – شفقته على أمته وكمال نصحه لهم
جاءت خطبة المسجد المدني يوم الجمعة 23 من جمادى الآخرة 1442هـ - الموافق 5/2/2021م، للشيخ عبد المحسن القاسم، حول فضل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتناولت الخطبة جوانب عدة من حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته وخوفه عليهم، قال -تعالى-: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يعز عليه ما يشق عليكم، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم ونفعكم، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، قال الثعلبي -رحمه الله-: «لا يهمه إلا شأنكم، وهو القائم بالشفاعة فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة».
خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من الاعتقادات الباطلة
ثم بين الشيخ القاسم أن من فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - شفقته على أمته وكمال نصحه لهم، فبين لأمته ما يخافه عليهم من الاعتقادات، ومشقة التشريع، وتنفير الناس عن الإسلام، والدنيا وفتنتها وما يكون في آخر الزمان وتغير الحال، وعقوبات الدنيا والآخرة، وبيانه ذلك لأمته دليل علي أنها تبتلى بها وتظهر فيها، ومن ذلك خوفه - صلى الله عليه وسلم- على أمته من وقوعها في الرياء وتزيين العبادات للآخرين، فقال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء»، بل خافه عليهم أكثر من خوفه عليهم من المسيح الدجال، عن أبي سعيد مرفوعا «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل» رواه أحمد، وإذا كان خوفه عليهم من الشرك الأصغر شديدًا، فما الظن بخوفه على أمته من الشرك الأكبر.
خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من العنت والمشقة
ثم بين الشيخ القاسم أنَّ شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - اختصت بالكمال والسهولة واليسر قال -سبحانه-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وبهذا الأصل العظيم بعث - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة، قال - صلى الله عليه وسلم : «بُعِثْتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَة» رواه أحمد، وقد خشي - صلى الله عليه وسلم - على أمته ما يضاد ذلك من العنت والمشقة، تزاد عليهم الفرائض فيعجزوا عنها، أو أن تكثر عليهم الأوامر فيقصروا فيها، فراجع ربه ليلة الإسراء والمعراج لما فرضت الصلاة الخمسين، وسأله التخفيف علي أمته حتي صارت خمس صلوات، وكان يدع بعض الأعمال مخافة أن تفرض عليهم، وعن عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنْ كَان رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لَيدعُ الْعَمَلَ وهُوَ يحِبُّ أَنَ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ». متفقٌ عَلَيهِ، وقد يعمل العمل الصالح فإذا تسابق الناس عليه وهو شاق لم يفعله معهم لئلا يفرض عليهم، فقام ليالي من رمضان في المسجد، فائتم الناس بصلاته، فترك الخروج عليهم ثم قال: «خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» متفق عليه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يعمل أمام أصحابه أعمالا مخافة أن يثقل علي أمته قالت عائشة -رضي الله عنها-: تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهِمَا، وَلاَ يُصَلِّيهِمَا فِي المَسْجِدِ، مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عنهم»، وكان - صلى الله عليه وسلم - يختار لنفسه ولأمته ما كان أيسر وأسهل من غير أن يقارف إثما، في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه «متفق عليه، وخشي النبي علي أمته من ينفرها عن الإسلام، فترك إعادة بناء الكعبة على بناء إبراهيم بعد فتح مكة، وقال: «مَخَافَةَ أَنْ تَنْفِرَ قُلُوبُهُمْ». متفق عليه.
خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من فتنة الدنيا
كما خاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته أن تصرفهم الدنيا عن حقيقة الاستعداد لما بعدها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل وما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا»، وخشي النبي - صلى الله عليه وسلم - علي أمته من الدنيا أشد من خشيته عليها من الفقر، فقال: «فَوَ اللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ».
خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من مضلات الفتن
وبين الشيخ القاسم أن الحياة دار اختبار وفتنة، يبتلى العباد كلهم فيها بأنواع الفتن؛ لذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - «تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا» رواه مسلم، قال النووي -رحمه الله-: «أي: تعاد وتكرر شيئا بعد شيء»، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الفتن كثيرة كمواقع القطر، ومنها كبار، ومنها فتن تموج كموج البحر، وقد خشي - صلى الله عليه وسلم - علي أمته من الوقوع فيها، والتأثر بها فقال: «إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن» رواه أحمد، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بالله منها في صلاته، يقول: «وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» متفق عليه. وأمر أصحابه بالتعوذ منها قال زيد بن ثابت قالَ: «تَعَوَّذُوا باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ، ما ظَهَرَ منها وَما بَطَنَ قالوا: نَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وَما بَطَن».
خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من المسيح الدجال
وعن فتنة المسيح الدجال قال الشيخ القاسم: المسيح الدجال خلقه كبير، قال عنه تميم الداري -عندما رآه-: «أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، ويوشك أن يؤذن له في الخروج، وإذا خرج يفر الناس منه في الجبال» رواه مسلم، وفتنة الدجال فتنة كبيرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما كانت ولا تكون فتنة حتى تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال، وما من نبي إلا وحذر قومه الدجال»، وقد خشي - صلى الله عليه وسلم - علي أمته منه فقال: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي علَيْكُم، إنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فأنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وإنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتي علَى كُلِّ مُسْلِم».
خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من الأئمة المضلين
والعلماء الربانيون ورثة الأنبياء، يخشون ربهم، ويبينون للناس دينهم، وقد خاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن يزين الباطل ويكتم الحق، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلُّونَ» رواه أحمد، وخوف الرسول - صلى الله عليه وسلم - على من يضل الأمة أشد من خوفه عليه من الدجال، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: «كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لغير الدجال أخوفني على أمتي، (قالها ثلاثًا)، قال: قلت: يا رسول الله، ما هذا الذي غير الدجال أخوفك على أمتك ؟ قال: أئمة مضلين. رواه أحمد
خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من خطر اللسان
واللسان أعظم الجوارح خطرا، وأقواها أثرا، وقد خاف النبي - صلى الله عليه وسلم - علي أمته من اللسان، عن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - قال: «قلتُ يا رسول الله حدِّثني بأمر أَعتصِم به، قال: قل ربي الله، ثمَّ استقِمْ، قلت: يا رسول الله، ما أخْوَف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا». رواه الترمذي.
خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من تعجيل العقوبة
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاف على أمته أن تعاجل بالعقوبة أو تفاجأ بالعذاب، عن عائشة -رضي الله عنها- قالَتْ: «كان النبي إذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ، سُرِّيَ عنْه، فَعَرَفْتُ ذلكَ في وَجْهِهِ، قالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقالَ: لَعَلَّهُ، يا عَائِشَةُ كما قالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالوا هذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}». رواه مسلم.
خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من عقوبات الآخرة
كما خاف الرسول علينا من عقوبات الدنيا، خاف علينا عذاب الآخرة، قال عبدالله بن عمرو بن العاصي -رضي الله عنهما-: «إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَلا قَوْلَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- في إبْراهِيمَ: {رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فمَن تَبِعَنِي فإنَّه مِنِّي} (إبراهيم: 36)، وقالَ عِيسَى -عليه السَّلامُ-: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لهمْ فإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة: 118)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتي أُمَّتِي، وبَكَى، فقالَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: يا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، ورَبُّكَ أعْلَمُ، فَسَلْهُ ما يُبْكِيكَ؟ فأتاهُ جِبْرِيلُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، فَسَأَلَهُ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بما قالَ، وهو أعْلَمُ، فقالَ اللَّهُ: يا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ، ولا نَسُوءُك». رواه مسلم، ويوم القيامة يكرمه ربه بالمقام المحمود، فيأذن له في الشفاعة لديه، فما يلبث أن يخر ساجدا بين يدي ربه، فيفتح الله عليه من محامده والثناء عليه شيئا لم يكن يحسنه قبل ذلك، ثم يقول له ربه: «يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيقول: يا رب، أمتي أمتي» متفق عليه.
خوفه -صلى الله عليه وسلم - على أمته من مخالفة هديه
وما خافه النبي -صلى الله عليه وسلم - علي أمته أحق بالحذر، ومما وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته «التمسك بهديه، والعض على نصائحه بالنواجذ» قال - صلى الله عليه وسلم -: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ» رواه أحمد، وقال -تعالى-: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}.
تمام النعم من تمام الإيمان
لا تتم النعم إلا بالإيمان قال -سبحانه-: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، وكل مسلم مأمور أن يدعو ربه بالهداية في كل صلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، وعلى المؤمن أن يجعل خوفه من فقد هذه النعمة أو نقصانها، فالزم هدي النبي وسنته، واحذر مما حذرك منه، وخف مما خاف عليك منه؛ لتأمن في الآخرة إذا خاف الناس؛ فطاعة الله ورسوله جالبة للأمن قال -سبحانه-: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}.
لاتوجد تعليقات