رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 22 فبراير، 2021 0 تعليق

الشيخ بندر بليلة: التوحيد أول واجب افترضه الله على عباده

 

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 30 من جمادى الآخرة 1442هـ - الموافق 12/2/2021م للشيخ بندر بليلة عن أهمية معرفة الله -تبارك وتعالى- وأهمية محبته والقرب منه؛ حيث أكد إمام الحرم أنه ليس للآدمي شرف يعدل معرفة الله -تبارك وتعالى-، ومحبته وتوحيده، فهو بغير إلهه وربه لم يكن شيئًا مذكورا، وبفضله وإنعامه خلقه من العدم، وعلّمه بالقلم، {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، فلما أوجده -سبحانه- وعلّمه وفهّمه وخلق كل شيء له، ونَصَبَ له دلائل معرفته وشواهد وحدانيته، أمره أن يُخلص له التوحيد، ويُفْرِدَه بالعبادة، وينقاد له بالذل والطاعة. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.

أوّل الواجبات

     فكان أوّل واجب افترضه عليه -جل وعلا-، أنْ يكون هو -سبحانه- معبوده وإلهه، كما كان هو ربه وخالقه وبارئه ومصوره، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

شأن البشرية

     وقد كان من شأن البشرية مع هذا المطلب العظيم، بعد أن جبلهم ربهم عليه وأمرهم به، وأنزل أباهم آدم إلى الأرض على صريح التوحيد، أن ظلّت تَرِدُ من هذا الشِّرب الرَّوي، وتنهل من ذلك المنهل العذب الهَنِي قرونا متطاولة، لا تعرف غير ربّها إلها، ولا تَذِل أعناقها خاضعة إلا لسيّدها ومولاها، حتى اجتالتهم الشياطين، وزيّنت لهم الشرك واتخاذ الأنداد مع الله، كما قال - صلى الله عليه وسلم - عن ربه: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرّمَتْ عليهم ما أَحْلَلت لهم، وأَمَرَتْهُم أن يُشركوا بي ما لم أُنزل به سلطاناً». أخرجه مسلم.

صفاء التوحيد

     فكان الخلق مجتمعين على صفاء هذا التوحيد حتى انحرفت فِطَرهم، فبعث الله الرسل إليهم ليعودوا بفطرهم سيرتها الأولى، فيُخلصوا لله الدين ويجرّدوا له التوحيد، ويتبرؤوا من كل ما يُعبد من دونه، قال -عز وجل-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}، فدارت رحى الشرائع من بعد على هذا التوحيد، الذي هو لُباب الرسالات السماوية، وخلاصة المِلّة الحنيفية، وغاية بعثة الرسل وإنزال الكتب، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.

دعوة الرسل للتوحيد

     فهذا نداء نوح -عليه السلام-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. ومن بعده هود وصالح وشعيب، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. فهذا نداء التوحيد، هو أول دعوة الرسل وآخرها من أولهم إلى آخرهم، وأمّا إبراهيم الخليل عليه أزكى التسليم، فله في الحنيفية أرسخ قدم، فهو إمام الحنفاء ومُقَدّم الموحدين الأصفياء، وقد أبطل الله الانتساب إلى غير ملّتِه فقال -عز وجل-: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وزكّى متّبع ملته والسائر على طريقته، فقال -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، ولا مِلّة له -عليه السلام- إلا التوحيد {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

أكمل الخلق في التوحيد

     ولما كان الخلق متفاوتين في تحقيق التوحيد علمًا وعملًا وحالًا، كان أكملهم توحيدًا الأنبياء والمرسلون، وكان أكمل الأنبياء أولوا العزم من الرسل، وكان أكمل أولوا العزم الخليلان: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علمًا وعملًا وحالًا، ودعوة للخلق وجهادًا، ولهذا أمر الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ملة إبراهيم -عليه السلام- {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

تعليم الصحابة التوحيد

     وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلّم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: أصبحنا على فطرة الإسلام وعلى كلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين. فملة إبراهيم التوحيد، ودين محمد ما جاء به من عند الله قولًا وعملًا واعتقادا، وكلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله. وفطرة الإسلام ما فَطَر الله عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبودية وذُلًا، وانقيادًا وإنابة.

القرآن والتوحيد

     والقرآن العظيم مملوء من ذكر التوحيد والدعوة إليه وهما توحيدان: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب. فأما الأول فهو إثبات تفرّد الرّب -تبارك وتعالى- بنعوت الجلال والكمال في الذات والأسماء والصفات والأفعال، وأما الثاني هو إفراده -تبارك وتعالى- بخالص العبادة التي هي غاية الذّل مع غاية الحب في سائر الأحوال، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: غالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن هي متضمنة لنوعي التوحيد، بل إنّ كل آية في القرآن هي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه، وذلك أنّ القرآن إمّا خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهذا هو التوحيد العلمي الخبري، وإمّا دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يُعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإمّا إلزام بطاعته وأمره ونهيه فهذه هي حقوق التوحيد ومُكمّلاته، وإمّا خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهذا هو جزاء التوحيد، وإمّا خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحلّ بهم في العُقبى من العذاب فهذا هو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي الشرك وأهله وجزائهم، فالحمد لله توحيد، رب العالمين توحيد، الرحمن الرحيم توحيد، مالك يوم الدين توحيد، إياك نعبد توحيد، وإياك نستعين توحيد، اهدنا الصراط المستقيم توحيدٌ متضمن لسؤال الهداية لطريق أهل التوحيد الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين فارقوا التوحيد.

أجلّ شهادة وأعظمها

     وقد شهد الله -عز وجل- لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال -تعالى-: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فكانت هذه الشهادة أجلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، مِن أجلّ شاهدٍ بأجلّ مشهودٍ به، وذلك لأنها شهادة جامعة للتوحيد والعدل، فهو -سبحانه- قائم بالعدل في توحيده، وقائم بالوحدانية في عدله، وبالعدل والتوحيد يلتئم الكمال، فإنّ التوحيد يتضمن تفرده تعالى بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه. وإنّ العدل يتضمن وقوع أفعاله -تبارك وتعالى- على السّداد والصّواب وموافقة الحكمة.

أعظم شهادة

     فهذه الشهادة أعظم شهادة على الإطلاق، وإنكارها وجحودها أظلم الظلم على الإطلاق، فلا أعدل من التوحيد، ولا أظلم من الشرك. وما أجلّ قول المولى -جل وعلا- إذ يقول آمراً نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.

حقيقة التوحيد

     إنّ حقيقة التوحيد إخلاص الدين لله، قال الله -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، وهو لا يقوم إلّا على الجمع بين طرفي الإثبات والنفي. فأما الإثبات فهو أن تُقِرّ لله -تعالى- بإلهيّته. والنفي أن تنفي إلهيّته عمّا سواه، وبذلك تعبده تاركا عبادة غيره. وتحبه معرضا عن محبة غيره، وتخشاه مترفعا عن خشية من سواه، وكذلك لا تستعين إلّا به، ولا تتوكل إلّا عليه، ولا تتحاكم إلّا إليه، ولا تدعو إلّا إيّاه، ولا ترغب فيما سواه.

كمال التوحيد

     وكمال هذا التوحيد ألّا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا، بل يبقى العبد مواليًا لربه في كل شيء، يُحب ما أحب، ويُبغض ما أبغض، ويوالي من يواليه، ويُعادي من يُعاديه، ويأمر بأمره، وينهى عن نهيه، فهذا هو أول الدّين وآخره، وظاهره وباطنه، وذروة سنامه، وقطب رحاه.

حقُّ الله على العباد

     وبعد أهل الإيمان، فهذا هو حق الله على عباده، الذي يُنجي من عذابه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: «يا معاذ، هل تدري ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألّا يُعذّب من لا يُشرك به شيئًا» متفق عليه.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك