رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 17 يونيو، 2021 0 تعليق

الشيخ العصيمي: العلم الشرعي جاء بصيانة مصالح الأمة وحفظها ووقايتها من المفسدات (1)

 

في محاضرة قيمة له، تحدث فيها الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي عن أثر العلم الشرعي في تحقيق مصالح الأمة؛ حيث بين أن المتكلمين لا يختلفون في المصالح؛ من حيث كونها: إيصال ما ينفع، وإن جعلوها تارة مصلحة، أو منفعة، أو لذةً، أو غير ذلك من الألفاظ المعبر بها عن تلك الحقيقة، فإن المصلحة عندهم هي إيصال ما ينفع إلى العباد.

     ثم تحدث العصيمي عن تقسيم المصالح عند الأصوليين وأنها تقسم لاعتبارات مختلفة، من جملتها: تقسيم المصالح بالنظر إلى تعلقها بعموم الأفراد أو آحادهم، وأقدم المتكلمين في هذا هو أبو حامد الغزالي في كتاب (شفاء الغليل)، ثم تتابع بعده جماعة يبينون هذا المعنى، وأحسن ما يقال في تقسيمه: أن مصالح الخلق باعتبار عموم الأفراد وآحادهم تنقسم إلى نوعين:

- أحدهما: المصالح الجماعية، وهي التي تتعلق بجماعة المسلمين.

- والآخر: المصالح الفردية، وهي التي تتعلق بأحادهم، والمراد ب (الآحاد) هنا: النوع، لا أحدًا بعينه، وإنما نوع من الأنواع، كالذي يذكرونه من المصلحة في توريث امرأة من طلقها زوجها في مرض الموت، أو في فسخ نكاح امرأة المفقود، أو غير ذلك؛ فهم لا يعنون أحدًا من الخلق بعينه، وإنما يعنون نوعا من الأنواع.

مصالح جماعية

    وهذه المصالح التي ذكرها الشيخ مما يتعلق بعموم الأفراد، أحسن ما عبر به عنها هو التعبير بأنها مصالح جماعية، أي تتعلق بجماعة المسلمين، وقد سماها بعض الأقدمين: (مصالح الأمة)، فإنَّ هذه الكلمة ليست وليدة اليوم، وإن كانت كثيرة الذكر على ألسنة المتكلمين في المصالح، فأقدم من ذكر هذا -وهو من أبناء القرن الرابع- هو قُدامة بن جعفر الكاتب في كتاب (الخَرَاج)، وأقدم منه من ذكرها بلفظ آخر يوافقه في المعنى؛ إذ رویت باسم: (مصالح المسلمين)، في أثر يروى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عند عبد الرزاق في (مصنفه)، وسميت أيضًا (مصالح الجماعة) عند ابني تغري بردي في (النجوم الزاهرة)، ثم تبعه جماعة من المتأخرين ووسعوه.

تتعلق بالخلق كافة

     فمصالح الأمة هي المصالح الجماعية التي تتعلق بالخلق كافة، وقد تتعلق بأكثرهم لا بجميعهم، وتعلقها بالأكثر لا ينفي عنها الكلية، فإن تخلف بعض الأفراد لا يقدح في كلية أمر ما، على ما ذكره الشاطبي في كتاب (الموافقات)، فمصالح الأمة هي المصالح التي تتعلق بالأمة، سواء تعلقت بالأمة جمعاء، أم بأكثر تلك الأمة، وهذه المصالح ما تكلم فيه المتكلمون قديما وحديثا، وإن اختلفت عباراتهم، وما لهج به جماعة من المتأخرين من المتكلمين في هذه المسألة بأن الفقهاء الماضين غيبوا الحديث عن مصالح الأمة، هو غلط عليهم؛ فإن الحديث عن مصالح الأمة موجود في كلام المتقدمين في موردین:

- أحدهما: في باب السياسة الشرعية؛ فإن الإمام نائب عن الأمة في مصالحها، فالذين تكلموا من الفقهاء في السياسة الشرعية ذكروا تلك المصالح في جملة ما عدوه من المصالح المناطة به (ولي الأمر).

المصلحة الكلية للأمة

والآخر: أن تلك المصالح توجد في مصالح الأفراد واحدًا واحدًا، وباجتماعها تتحقق المصلحة الكلية للأمة جمعاء، ذكره الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في كتاب (مقاصد الشريعة)، وهذه الأمة التي تذكر بقولنا: (مصالح الأمة) هي في أصل الخطاب الشرعي ترجع إلى نوعين:

- أحدهما: أمة الدعوة، وهم كل من شملته دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ بعثته.

- والآخر: أمة الإجابة؛ وهي الأمة التي أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنت به. فهذه تسمى (أمة)، وتلك أيضا تسمى (أمة).

- وبرز نوع ثالث من الأمم، وهو ما يسمى ب (الدولة)، فإن هذا جزء مما يشمله اسم (الأمة)، وسميت (الأم)، وسمي (الإمام)، وسميت (الأمة)، فتسمية جماعة من الناس يقطنون موضعًا من الأرض يليه ولي أمر باسم (الأمة) صحيح باعتبار الوضع اللغوي.

المصلحة العامة

وتواردت عليه أيضا الأوضاع النظامية الموجودة في العالم اليوم؛ فإن هناك ما يسمى اليوم (بالمصلحة العامة)، ويريدون بها: مصلحة الدولة، أو ما يسمى ب (المصلحة الوطنية)، فإن هذا جزء مما يلحق اسم (الأمة).

فصارت (الأمة) باعتبارات ما يتعلق بمصالح الأمة ثلاثا:

- أحدها: أمة الدعوة.

- وثانيها: أمة الإجابة.

- وثالثها: الأمة التي تشكل في الوضع الشرعي طائفة، لكن يصح باعتبار الوضع اللغوي وما تجري عليه سياسة الولاية السلطانية تسميتها (أمة) من الأمم، وتتعلق بها أحكام معروفة في باب السياسة الشرعية.

جمع مصالح الأمة

     وإذا أريد جمع مصالح الأمة، فإنه ينبغي مراقبة ما يوجد من هذه المعاني في أمة الدعوة، وفي أمة الإجابة، وفي الأمة بالمعنى الذي ذكرناه الذي يشكل طائفة من طوائف المؤمنين، فالنظر إلى هذه الموارد الثلاثة المتعلقة بــ(الأمة) ينتج منها معرفة مصالح الأمة، والمتكلمون في مصالح الأمة من المتأخرين لهم مسلكان:

- أحدهما: بیان مصالح الأمة وفق منظور شرعي؛ فهم يرصدون مصالح الأمة باعتبار دلالة أدلة الشرع.

- والآخر: من يرصد مصالح الأمة باعتبار منظور حزبي، فهو يبين مصالح الأمة منطلقا من ثوابت حزب ما؛ سواء كان حزبا يساريا شیوعيًا، أم حزبا قوميًا، أم حزبا إسلاميًا، فإنه يحدد تلك المصالح عبر هذا المنظور الضيق.

رصد مصالح الأمة بدلالة الوضع الشرعي

     والوادي الأفيح الواسع، هو رصد مصالح الأمة باعتبار دلالة الوضع الشرعي، أي باعتبار ما وجد في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وانعقد عليه الإجماع في كونه مصلحة من مصالح الأمة، مما تشترك فيه أمة الدعوة وأمة الإجابة، والأمة التي صارت تسمى بلسان اليوم: (الدولة، أو الشعب)، أو غير ذلك من المسميات العصرية، ويصح عليها باعتبار الوضع اللغوي وما يتعلق بها من أحكام الولايات السلطانية أن تسمى (أمة).

ثماني مصالح

واستقراء دلالة الوضع الشرعي في مصالح الأمة يردها إلى ثماني مصالح:

- المصلحة الأولى: الصلاح.

- والمصلحة الثانية: الخيرية التي يسميها المتأخرون: (هوية الأمة الإسلامية)، أو (تميز الأمة الإسلامية)، وسمتها الشريعة: (الخيرية).

- والمصلحة الثالثة: الجماعة.

- والمصلحة الرابعة: العلم.

- والمصلحة الخامسة: القوة.

- والمصلحة السادسة: الاكتفاء، أي حصول الكفاية فيما يحتاج إليه من مأكل أو شرب أو ملبس أو مسكن.

- والمصلحة السابعة: العدل.

- والمصلحة الثامنة: الأمن.

مصالح ثابتة بطريق الشرع

     فهذه المصالح التي ذكرنا هي ثابتة بطريق الشرع؛ فما من واحد منها إلا وتتوارد عليه أدلة كثيرة، لا ترجع إلى عدد قليل، فهي من كليات الشرع، تثبت أن ما ذكرناه هو مصلحة من المصالح التي عنيت الشريعة بتعيينها فيما يتعلق بالأمة، وتلك المصالح يندرج في أفرادها أشياء يرد بعضها إلى بعض.

مصلحة (الصلاح)

     فالذي ذكرناه من مصلحة (الصلاح) - مثلا - دليله في القرآن الكريم آیات كثيرة: قال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:114)، وقال -تعالى-: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (القلم:50)، وقال -تعالى-: في دعاء إبراهيم -عليه السلام-: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (الصافات 100)، وفي كنف هذا الصلاح فروع:

- منها: عبادة الله؛ قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56: الذاريات).

- ومنها: طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59).

- ومنها: الالتزام بدين الإسلام كله، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة:208).

- ومنها: المحافظة على الأخلاق والقيم الفاضلة، قال -تعالى-: {وقولوا للناس حسنًا} (البقرة: 83)، وقال -تعالى-: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: 4) فليست واحدة من هذه المصالح إلا وفي كنفها فروع متعددة.

فما لاح لك أنه مصلحة من المصالح فانظر، لعله يرجع إلى واحدة من هذه المصالح الثمانية، وليس بممنوع أن يدل الاستقراء على شيء زائد، فإن ما ذكرته من مصالح الأمة الثمانية هو ناتج من استقراء أدلة القرآن والسنة والإجماع في إثباتها.

أثر العلم الشرعي في تحقيق المصالح

     إذا تقرر هذا، بقي الأمر الأعظم، وهو الذي ينبغي أن يعرفه أهل العلم خاصة، وهو أثر العلم الشرعي في تحقيق مصالح الأمة، فإن ورثة النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأمناء البلاغ، وحملة الشريعة، هم أحق الناس وأجدرهم وأولاهم بأن يكون للعلم الذي يحملونه أثر في تحقيق مصالح الأمة، وينتظم ذلك في وجوه متعددة:

الوجه الأول تعیین مصالح الأمة والتعريف بها

     فالعلم يهدينا إلى معرفة أمر ما أنه من مصالح الأمة، فمثلا: ما ذكرت لكم من أنَّ (الخيرية) من مصالح الأمة، تظاهرت عليها آیات كثيرة، عرفنا بطريق العلم أن هذه مصلحة من مصالح الأمة العامة، قال -تعالى-: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (آل عمران: 10)، وعند الترمذي من حديث معمر بن راشد، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده معاوية -رضي الله عنه- أن النبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله»، فالعلم عن مصالح الأمة ويعرف بها.

الوجه الثاني الدعوة إلى مصالح الأمة والحث عليها

     فالعلم يدعو إلى مصالح الأمة ويحث عليها، فقد عرفت من قبل أن من مصالح الأمة (القوة)، قال -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} (الأنفال: 60). وفي صحيح مسلم من حديث محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»، فالعلم هنا دعانا إلى تلك المصلحة العظيمة، وهي مصلحة (القوة)، وحثنا عليها.

الوجه الثالث الأمر بحفظ مصالح الأمة،والنهي عن إضاعتها

      فإن العلم يرشدنا إلى تلك المصالح، آمرًا لنا أن نحافظ عليها، وينهانا أشد النهي عن إضاعتها، فمن مصالح الأمة - كما عرفت سابقا -: (الجماعة)، والعلم يأمرنا بها، وينهانا عن إضاعتها، قال -تعالى-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:41). وعند الترمذي من حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة!».

الوجه الرابع صيانة مصالح الأمة، ووقايتها من المفسدات

     فالعلم الشرعي جاء بصيانة مصالح الأمة وحفظها ووقايتها من المفسدات، فتلك (الجماعة) - التي ذكرتها لك مصلحة من المصالح - جاء العلم مبینا وجوب المحافظة عليها، وصيانتها ووقايتها من المفسدات، قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم 32).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك