رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 27 يونيو، 2021 0 تعليق

الشيخ العصيمي:أثر العلم الشرعي في تحقيق مصالح الأمة (2)

 

ما زال الحديث مستمرا عن محاضرة الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي التي تحدث فيها عن أثر العلم الشرعي في تحقيق مصالح الأمة؛ حيث بين أن المتكلمين لا يختلفون في المصالح في كونها: إيصال ما ينفع، وإن جعلوها تارة مصلحة، أو منفعة، أو لذةً، أو غير ذلك من الألفاظ المعبر بها عن تلك الحقيقة، فإن المصلحة عندهم هي إيصال ما ينفع إلى العباد.

الوجه الخامس: تحديد واجب العبد في تحقيق مصالح الأمة

     فتلك المصالح يكون على الواحد منا واجب ينبغي أن يقوم به في تحقيقها، فقد ذكر لك -فيما سبق- أن من مصالح الأمة: {الاكتفاء}؛ وهو بلوغ الكفاية في شد الاحتياج من مطعم أو ملبس أو مشرب أو مسكن، وجاء العلم ليبين لنا وظيفة من وظائف أولئك الذين يُعنون بهذا، فجعل الله -سبحانه وتعالى- من موارد الاكتفاء: الزكاة، وجعل المأمورین بها: الأغنياء، وبين وظيفتهم، ففي الصحيحين من حديث یحیی بن عبد الله بن صيفي، عن أبي عبير نافذ مولی ابن عباس، عن ابن عباس - رضي الله عنه -؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث بعث معاذ إلى اليمن -بعد ذكر الصلاة-: «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم»؛ فبين الشرع وظيفة الغني في الزكاة، وأنه يجب أن يخرجها ويردها إلى أهلها، والمذكور منهم في الحديث: الفقراء.

الوجه السادس: تقسيم وظائف أفراد الأمة في تحقيق مصالحها

     فتلك المصالح تحققها الأمة جمعاء، ولا يمكن أن يحققها واحد منهم، وقد جعل لكل واحد من الأمة وظيفة في تحقيقها ينبغي أن يقوم بها، وجاء الشرع الحكيم بذلك، قال -تعالى-: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران: 104) وقال -تعالى-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(النساء:83)، وقال -تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122)، فالعلم حدد وظائف تحقيق تلك المصالح، وقسمها بين الأمَّة، فقد علمت سابقا أن من مصالح الأمة: القوة، ومن موارد هذه القوة: الجهاد، وقد أناط الشرع الحكيم الجهاد بولي الأمر، فهو وظيفه ولي الأمر، وفي الصحيحين من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه، وتقى به»، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يقاتل من ورائه»: يعني يُصدر عن رأيه في أمر الجهاد، وجعلت وظیفة غيره أن يكون تابعا له، وعند أحمد بسند صحيح من حديث عبد الله بن عون، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: «وأما الرجل فلا يحمل على الكتيبة إلا بإذن إمامه».

الوجه السابع: التدرج في بلوغ مصالح الأمة

     الوجه السابع تدريج الخلق إلى بلوغ مصالح الأمة وتحصيلها، فإن الوصول إلى تلك المصالح وتحصيلها -في الأفراد، أو في الأمة جمعاء- لا يكون دفعة واحدة، وإنما يجيء تدريجيا شيئا فشيئا، وجاء العلم ليهدينا إلى هذا الأصل، وأن تلك المصالح التي نؤمل الوصول إليها - من الصلاح، أو الخيرية، أو الجماعة، أو القوة - لا تجيء دفعة واحدة، وإنما تؤخذ شيئا فشيئا.

تزكية النفس

     فما ذكر لك أولا من الصلاح وما يدخل فيه من تزكية النفس، تجد في الشرع الحكيم ما يبين لك التدريج في ذلك، ومنه: ما جاء في الصحيحين من حديث محمد بن عبد الرحمن (مولى بني زهرة)، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «اقرأ القرآن في كل شهر»، قال: قلت: إني أجد قوةً، قال: «اقرأه في عشرين ليلة»، قال: قلت: إني أجد قوة، قال: «فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك».

     فلم يبتدره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره بقراءة القرآن في سبع، وإنما ابتدأه - صلى الله عليه وسلم - بأن يقرأ القرآن في شهر، ثم ذكر من طاقته ما ذكر، فأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما أرشده، فهذا من جملة ما يبين لك أن العلم يُدرِّج الخلق في تحصيل مصالح الأمة.

الوجه الثامن: الحكم على المصالح

     الحكم على ما يعده العادون في مصالح الأمة، وبيان مواقعها من الشرع، فما ذكرته لك من نظام المصالح الثمانية هو مما جاء من استقراء الكتاب والسنة، وليس بمدفوع أن يجيء غيري بشيء يرده إلى الكتاب والسنة، ولكن المدفوع بالعلم أن تُدَّعَي مصلحة من مصالح الأمة ليست كذلك، فمن أثر العلم الشرعي: أنه يُفرِّق بين مصالح الأمة الثابتة شرعًا، والمصالح المدَّعاة.

     فمثلا: من المصالح التي يلهج بها جماعة من المتأخرين في مصالح الأمة: ما يسمى بـ (سيادة الأمة)، ويفسرونه بتفسيرات مختلفة، فيها حق وفيها باطل، وأشهر تلك التفسيرات: أنهم يجعلون الأمَّة مصدرًا للتشريعات، وهو بهذا المعنى باطل لا محالة؛ فإن دلالة الكتاب والسنة والإجماع على أن الحكم لله، وأن ما رتَّبه الشرع في تنظيم هذه الأحكام هو الذي إليه المرد، وليس إلى ما يسمى بـ(سيادة الأمة).

الوجه التاسع: تمييز الوضع الشرعي لمصالح الأمة

     فقد ذكرت لك من قبل أن من مصالح الأمة: العدل، وهذا دلت عليه آیات وأحاديث كثيرة، قال -تعالى-: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة:8}، وقال -تعالى-: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} (النحل:90)، وهناك آيات أخرى، وحقيقة العدل التي يدل عليها العلم: أنه إعطاء كل ذي حق حقه، فالعدل يدور على أصلين:

أحدهما: بذل حق لأحد.

والآخر: أن ذلك البذل يكون وفق حقه.

     وليس في الشرع ما يسمى بـ (المساواة)؛ فإن المساواة تكون تارة عدلا، وتكون تارة ظلما، فمن ينسب إلى مصالح الأمة المساواة ويطلق القول فيها، فقوله باطل، ولا تجد في دلالة الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، والشرع تارة جعل الفضل للرجال، وتارة أخرى جعله للنساء في مسائل متعددة.

الوجه العاشر: الإحاطة بفقه النوازل المستجدة

     الإحاطة بفقه النوازل المستجدة المتعلقة بمصالح الأمة، فالمصالح تتجدد للناس فيها النوازل، باعتبار ما يحدث في أزمانهم من أحوال تتغير بها أمورهم فيما يتعلق بدينهم أو دنياهم أو غير ذلك، فالعلم الشرعي يبين لنا كم تلك الحوادث والنوازل التي تتعلق بتلك المصالح!

     فمثلا: إذا قيل: إن من مصالح الأمة: مصلحة العدل، ثم ذكر أن مما يتعلق بهذه المصلحة ما يسمى بـ (المشاركة الشعبية)؛ قيل: هذه المشاركة الشعبية تُرد إلى العلم، فيبين العلم هذه النازلة وفق دلالة الكتاب والسنة، وأن هذه المشاركة الشعبية كلمة فضفاضة؛ تارة تنحصر في واقع شرعي معتد به، وهو الشورى لأهل الحل والعقد، وتارة لا يُأبه بها إذا جعل الخيار حقا لكل أحد من صغير وكبير، وعاقل ومجنون، ورشید وغیر رشيد.

الوجه الحادي عشر: الفصل بين الحقائق المشتركة

     الفصل بين الحقائق المشتركة لمصالح الأمة في الإسلام وغير الإسلام، فمن أثر العلم الشرعي أنه يُفصّل لنا بين تلك الحقائق التي يشارك فيها الإسلام غيره مما يطلب فيه تحقيق تلك المصلحة، فما ذكر من مصلحة الاكتفاء، نجدها اليوم فيما يسمى بـ (المدرسة الرأسمالية)، ونجدها أيضا فيما يسمى بـ (المدرسة الشيوعية)، ولكن المدرسة الرأسمالية تجعل الاكتفاء حقا للفرد وتُغلّبه، والمدرسة الشيوعية تجعل الاكتفاء حقا للجماعة وتغلبها، وأما الإسلام فقد جاء بما يبين ملكية الفرد وملكية الجماعة، وحدد لكل أحد الأطر التي تنظم هذه العلاقة بينهم.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك