رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 28 مايو، 2012 0 تعليق

الشيخ الحويني الذي عرفت

 

يجبن مثلي أن يكتب كلمة في حق الشيخ المحدث غرة زمانه ودرة مكانه العلامة أبي إسحق الحويني أعزه الله وحفظه، ولكني لما علمت بمرضه والشدة التي ألمت به، انتابت قلبي مشاعر حزنٍ وكآبة، ووجدتني أمسك قلمي على استحياء لأخط هذه الكلمات التي هي كمتسلق قمم الجبال الشماء لن يزيدها صعوده عليها جمالاً، بل يزداد هو بتسلقها رفعةً وافتخارًا، محطات كثيرة مرت بي مع الشيخ كان فيها مثالاً للعالم الرباني الذي حمل هم أمته صغيرها وكبيرها، وكان دائمًا شعاره في الاهتمام بأمثالي: «لا تدري أي عملك أنفع».

 

 

الشيخ الإنسان

      عرفت الشيخ إنسانًا قبل أن أعرفه عالمًا جليلاً حينما استقبلني في بيته أول مرة عام 1992 برفقة الشيخ أبي عمرو أحمد الوكيل صاحب المصنفات الكبرى في كتب الشيخ، والذي لا يخرج كتاب للشيخ إلا وهو يراجعه ويفهرسه ويهذبه، وهو من الكنوز الدفينة في الزوايا ولا يعرفه إلا طلبة علم الحديث، ولم أكن أعلم وقتها قدر الشيخ حيث كنت أحد شباب جماعة الإخوان المسلمين التي لم يكن لأمثال الشيخ؛ عندهم قدر ولا وزن، واستقبلني الشيخ ليستمع إلى مشكلة عائلية كنت أمر بها وهو من هو في هذا الوقت، فأعطاني من وقته ما أفرغت فيه حاجتي، ونلت منه غايتي، وحلت فيه مشكلتي.

الشيخ الداعية

      توالت زياراتي للشيخ وبدأت صلتي تتوثق به، والعجيب أنه علم بانتمائي لجماعة الإخوان المسلمين ومع ذلك لم يتحدث معي بهذا الخصوص، ولم يتعرض للجماعة بأي سوء - وهذا ذكاء منه -  ولكنه أظهر لي محاسن المنهج السلفي بحسن سمته، وطيب معشره، وتواضعه، وبدأت أحب الشيخ وأحب لقاءه وكنت وقتها طالبًا في الجامعة.

      ولما تخرجت ازداد ارتباطي بالشيخ أحمد الوكيل، إلى أن وصلت إلى مرحلة كان لابد فيها من المصارحة والمكاشفة، فزرنا الشيخ معا في بيته في إحدى ليالي رمضان، وكعادته -فداه نفسي-، استقبلنا وبسط لنا المجلس لما علم رغبتي في التحدث عن شبهات تخص الدعوة السلفية، وجلسنا أغلب الليل ولم أخرج من عند الشيخ إلا وقد خط لي طريقًا أسلكه، ومنهجًا ألتزمه وحملني بأسفار من مكتبته العامرة ناءت يداي بحملها، ومنذ ذلك الوقت أخذت عهدًا على نفسي ألا أخطو خطوة إلا والشيخ ناصحي وموجهي.

الشيخ الوالد

      ثم جاءت لحظة فارقة في حياتي حين كنت في إحدى إجازاتي وذهبت أستأذن الشيخ في السفر وهذه عادتي معه، وسألني: هل تزوجت؟ فقلت: لا؛ لأني لم أكن أملك ما يكفي من المال في ذلك الوقت، فقال: لا تسافر حتى تتزوج، فقلت له: كيف يا شيخنا؟ قال: سأدبر لك قرضًا من إخوتي وسدده بما يتيسر لك، وفعلاً أتم الله علي هذا الزواج ببركة الشيخ، وكانت زوجتي محفظة لإحدى بناته، فسألته إحدى زوجاته عني، فقال لها: هذا ابننا – يقصد ابن الدعوة السلفية -  والمفاجأة أنني بعد أن أنهيت زواجي وذهبت أزور الشيخ أنا وزوجتي فإذا به يقول لي: مبلغ القرض هدية زواجك، كم أنت عظيم يا شيخنا! لم يرد أن يحرجني وهو ينوي هذه النية من البداية.

الشيخ الـمربي

      مرت خمس سنوات على سفري، ونزلت أزور الشيخ فقال لي: كم مر عليك في الكويت؟ قلت له: خمس سنوات، فقال لي: ماذا فعلت فيها، يقصد طلب العلم؟  قلت: لم أفعل شيئًا، فقال لي: «سُدْس عُمرك ضاع»، وذكرني بكلمته لي بداية سفري، وقال مربيًا وموجهًا: كثير من طلبتي استأذنني في السفر سنة أو سنتين لتعديل وضعه، وتحسين أحواله، وامتدت السنة إلى عشر سنين وحدث ما حدث معك، فقد كان الشيخ يضن بطلبته أن يترك أحدهم مصر ويسافر لطلب الدنيا، ويرى أن هذا تنازل عن قضية من أخطر قضايا الإنسان وهو أن يضحي بعمره من أجل الدنيا، وكان يقول: عمرك رأس مالك، فإذا ضاع عمرك ماذا يبقى لك؟!

اليتم الحقيقي

      أعرف أحد الإخوة لم تنقطع عبرته منذ علم بمرض الشيخ، وانقطع في بيته مهمومًا، وأمثال هذا كثيرون، وأول شعور انتابني في هذه المحنة شعور اليتم، اليتم الحقيقي هو فقدان مثل الشيخ أبي إسحق الحويني – عافاه الله وبارك في عمره – فهو كما قال أحمد عن الشافعي: «كالشمس للدنيا والعافية للبدن فهل عنهما من عوض؟!»، حفظك الله يا شيخنا وبارك في عمرك فأنت من قلت: إن مشكلة عصرنا الحاضر الذي طغى عليه الجهل غياب العلماء الربانيين، فبغيابهم غابت دعوة الحق، وبغيابهم رفع الأقزام رؤوسهم لينشروا الباطل، ويسفهوا علم الكتاب والسنة، ولا مخرج من هذا إلا بعودة أمثال هؤلاء العلماء، فعلينا أن نسعى جاهدين أن نربي أبناءنا التربية الصحيحة وتعليمهم القرآن والسنة والأخلاق؛ لنرتفع بمستوى هذه الأمة إلى المكانة التي تستحقها إن شاء الله.

يا شيخنا يا من أنَرْتَ قلوبَنا

                                    بحديثِ أحمدَ أنتَ بدرٌ نَيِّرُ

إنا لنرتقبُ اللقاءَ بلهفة

                                    والشَّوْقُ من أعماقنا يتفجَّرُ

يَسَّرْتَ للناسِ الحديثَ فأقبلوا

                                    ظمأى، وكيف ترى المَعِينَ وتُدْبِرُ؟!

علمتنا ندعو العباد بحكمةٍ

                                    فَيَعُمَّ معروفٌ ويَذْبُلً منكرُ

لا.. لستُ أنسى حُسنَ لقياك التي

                                     جعلت فؤادىَ للمكارمِ يُبْصِرُ

أهلا بنيَّ يقولُها الشيخُ الأبُ الـ

                                    حاني فيَأْسِرُني الحنانُ الغامرُ

يا ليتني يا سيدي لك خادمٌ

                                    من لازم العلماءَ فَهْوَ الظافرُ

قم يا محدثَ عصرِنا.. هيا اسقنا

                                    من علمِكَ الفيَّاضِ فَهْوَ الكوثرُ

قُمْ يا أبا إسحاقَ.. أَيْقِظْ عَزْمَنَا

                                    فالعزمُ في جُلِّ الشَّبِيبَةِ خائرُ

عِظْنَا ولكن لا تُوَدِّعْنَا ففي

                                    توديعِكُمْ كَسْرٌ، وأنَّى يُجْبَرُ؟!

أرواحُنا في بُعْدِكُمْ مَعْلولَةٌ

                                    والقلبُ منقطعٌ غريبٌ حائرُ

ورجاؤنا الموصولُ تَنْعَمُ صِحَةً

                                    ودعاءُ قومىَ مُرْسَلٌ مُتَواتِرُ

وأَكُفُّنَا مرفوعةٌ بضراعةٍ

                                    لله، وهْوَ المستعانُ الناصرُ

يا حيُّ يا قيومُ فاشْفِ صُدُورَنَا

                                    بشفائِهِ، جَلَّ الكريمُ النَّاصِرُ

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك