رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 8 يوليو، 2021 0 تعليق

الشيخ البدر: من أسباب ثباتهم على الاعتقاد الحقِّ اتِّفاقُ كلمتهم وعدمُ تفرُّقهم في الدين

 

ما زال الحديث مستمرا عن محاضرة الشيخ عبدالرزاق عبدالمحسن البدر عن أهمية العقيدةِ الإسلاميةِ الصافيةِ النقيَّةِ المتلقَّاة من الكتابِ والسُّنَّة ومكانتها العالية الرفيعة في الدين، وأسباب ثبات تلك العقيدة عند السلف -رحمهم الله.

الأمر الحادي عشر: اليقين بأن هذا المعتقد هو الحق

      يقينُهم التَّامُّ بهذا المعتقَد الحق الذي استقاموا عليه وبُعدُهم عن تعريضه للخصومة والجَدَل، وهذا جانبٌ غايةٌ في الأهميَّة للثبات على المعتقَد الحقِّ؛ أن يكون صاحبُه مقتنعاً به، وأهلُ السُّنَّة لديهم قناعة تامَّة وثِقة كاملة بما هم عليه من دين ومُعتقَد؛ ولهذا لم يحتاجوا كغيرهم إلى عَرْضِ ما عندهم على آراء الرِّجال وعقولهم، فصاحب الهوى والبدعة تَجدُه يتنقَّل بين الرِّجال يسألهم ويستشيرهم فيما هو عليه من دين؛ لأنَّه في شكٍّ منه وعدم ثِقة واطمئنان، أمَّا صاحب السُّنَّة فهو على يقين تامٍّ، لا يقبل في عقيدته خصومةً أو جدلاً، فهو مقتنعٌ بها غاية الاقتناع مطمئنٌّ بها غاية الاطمئنان؛ لأنَّ ارتباطَه بها ارتباطٌ بكتاب ربِّه وسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسُنَّة نبيِّه الذي لا ينطق عن الهوى، فهو مطمئنٌ غاية الاطمئنان وواثقٌ غاية الثقة بما عنده من معتقَد، لم يحتج في شيء منه إلى عرضِه على جدلِيٍّ أو مُخاصِمٍ أو نحو ذلك، أمَّا أهل الباطل فشأنُهم شأن آخر، قال الله -تبارك وتعالى-: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}(الزخرف:58)، فصاحب السنة من أسباب ثباته على الاعتقاد الحق أنه واثق تمام الثقة به، أما أهل الأهواء فكما أشرت فتجدهم يتنقَّلون ويَعرضون ما عندهم على آراء الرِّجال وعقولِهم، ولهذا تراهم يُكثرون التنقُّلَ في الدِّين، أما صاحب السنة فعلى وتيرةٍ واحدة وعلى طريقة واحد من أوَّل أمره إلى نهايته.

جملة من آثار السَّلف

وأنقل هنا في هذا المقام جملةً من الآثار عظيمة النفع عن السَّلف -رحمهم الله تعالى:

      قال حذيفة لأبي مسعود: «إنَّ الضلالةَ حقَّ الضلالة أن تعرفَ ما كنتَ تُنكر، وتُنكرَ ما كنتَ تعرف، وإيَّاك والتلوُّنَ في دين الله، فإنَّ دينَ الله واحدٌ»، وقال عمر بن عبد العزيز: «مَن جعل دينَه غرضاً للخصومات أكثر التنقُّلَ»، وقال أيضاً -رحمه الله-: «مَن عمل بغير علم كان ما يُفسِد أكثرَ مِمَّا يُصلِح، ومَن لم يَعُدَّ كلامَه من عملِه كثرت خطاياه، ومَن كثرت خصومتُه لم يزل يتنقَّل من دين إلى دين»، وقال معن بن عيسى - وتأملوا القصة الآتية كيف يكون ثبات أهل الحق على الحق وعدم تعريضه لخصومة أو جدل -: «انصرفَ مالكٌ يوماً من المسجد وهو متَّكئٌ على يدي، فلَحِقه رجلٌ يُقال له أبو الجويرية كان يُتَّهمُ بالإرجاء فقال: يا أبا عبد الله اسْمَع منِّي شيئاً أُكلِّمُك به وأحاجّك وأُخبِرُك برأيي، قال: فإن غلبتَني ؟ قال: فإن غلبتُك اتَّبَعتَنِي، قال: فإن جاء رجلٌ آخر فكلَّمنا فغلبنا؟ قال: نتَّبعه - أصبحت القضية تنقل من شخص إلى شخص ومن رأي إلى رأي - قال مالك: يا عبد الله، بعَث الله محمداً -  صلى الله عليه وسلم - بدينٍ واحد، وأراك تتنقَّل من دينٍ إلى دين»؛ وقال مالكٌ: «كان ذلك الرجل - يشير إلى أحد أئمَّة السَّلف - إذا جاءه بعضُ هؤلاء - يعني أصحاب الأهواء - قال: أمَّا أنا فعلى بيِّنة من ربِّي، وأمَّا أنتَ فشاكٌّ فاذهب إلى شاكٍّ مثلك فخاصِمه، وقال ذلك الرَّجل: يلبِّسون على أنفسهم ثم يطلبون من يُعرِّفهم - يعني بدينهم»؛ يلبِّسون على أنفسهم -أي أهل الأهواء - بالشكوك والظنون، ونحو ذلك، ثم يطلبون من يُعرِّفهم بدينهم، فيأتون يَعرضون ما عندهم من آراء وأهواء على عقول الرِّجال.

      هذه جملةٌ من النقول المفيدة، وكثير منها نقلتُه لكم من كتاب (الإبانة) لابن بطة العُكبُري -رحمه الله-، وهو كتاب عظيمٌ في بابه، وجميع هذه النقول عن السِّلف -رحمهم الله- توضح لكم متانةَ الدِّين، وقوَّتَه في نفوسِهم، وشدِّةَ رعايتِهم وعنايتِهم به، وعدمَ تعريضهم له إلى خصوماتٍ أو جدل، أو رأيٍ منحرف، أو نحو ذلك، فكان ذلك من أعظم أسباب ثباتهم على الحقِّ.

 

الأمر الثاني عشر: جزمهم بأن مسائل الاعتقاد من الثوابت

      جزمهم - أي السلف - بأنَّ مسائلَ الاعتقادِ من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر ونحو ذلك من الأمور الثوابت التي جاءت بها الرُّسل واتَّفقت كلمتُهم عليها، فلا يدخلها نسخٌ أو تعديل أو نحو ذلك؛ فهذا الاعتقاد عند أهل السنة فيما يتعلق بالعقيدة، العقيدة من باب الأخبار، وباب الأخبار لا يدخله النسخُ ولا يدخله التعديل، وكلمةَ الأنبياء متَّفَقَةٌ عليه من أوَّلهم إلى آخرهم، كما جاء في الحديث الصحيح عن النَّبِيِّ -  صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال:» الأنبياءُ إخوةٌ مِن عَلاَّتٍ، وأمَّهاتُهم شتَّى، ودينُهم واحدٌ».

 

الأمر الثالث عشر: وضوح عقيدتهم ويسرها

      وضوحُ عقيدتهم -أي أهـل السُّنَّة- ويُسرُها وبُعدُها عن الغموض، بينما العقائد الأخرى تراها يكتنفُها أنواعٌ من الغموض، وكثير من الشبهات، وعدم الوضوح. أمَّا عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة فهي واضحةٌ وضوح الشمس في رابعة النهار، وتكتسب وضوحها من وضوح مَنبعِها ومصدرها وسلامتها، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه (الصواعق) في بيان هذه العقيدة الحقة ووضوحِها لوضوح مصدرها، يقول: «مثل ضوء الشمس للبصر، لا يلحقها إشكال، ولا يغيِّر في وجه دلالتها إجمال، ولا يعارضها تجويز واحتمال، تَلِج الأسماعَ بلا استئذان، وتحلُّ من العقول محلَّ الماء الزُّلال من الصادي الظمآن، فضلُها على أدلَّة أهل العقول والكلام كفضل الله على الأنام، لا يُمكن أحدٌ أن يقدحَ فيها قَدْحاً يُوقِعُ في اللَّبس، إلاَّ إن أمكنه أن يقدحَ بالظهيرة صحواً في طلوع الشمس»؛ الذي يريد أن يقدحَ في العقيدة الصحيحة السليمة المأخوذة من الكتاب والسُّنَّة مثَلُه مثل رجلٍ يأتي إلى الناسِ في وسط النهار ويقول لهم: أريد أن أثبت لكم الآن أنَّه ليل وليس نهارا، هذا مثل لِمَن يأتي ويريد أن يُشكِّك في صحَّة العقيدة الصحيحة السليمة المأخوذة من كتاب الله وسُنَّة نبيِّه -  صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها واضحة صافية نقية، وضوحها وصفاؤها من صفاء مصدرها ووضوحه، وهو كتاب الله وسنة رسوله -  صلى الله عليه وسلم -، والأمر كما قال الله -تبارك وتعالى-: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46).

 

الأمر الرابع عشر: اعتبارُهم واتِّعاظُهم بحال أهل الأهواء

      في ثبات أهل العقيدة على العقيدة وسلامتهم من الانحراف: اعتبارُهم واتِّعاظُهم بحال أهل الأهواء، قديماً قيل: «السعيد مَن اتَّعظ بغيره»، فأهل الأهواء الذي تركوا الكتاب والسُّنَّة وأعرضوا عنهما، أورثَهم هذا التركُ تذبذُباً وانحرافاً وتنقُّلاً واضطراباً وعدم استقرارٍ أوثبات، ولهذا لا تَجدُ لصاحب هوىً ثباتاً واستقراراً، وإنَّما هم دائماً وأبداً في تنقُّل، وأنقل لكم هنا نقولاً عن أهل العلم في وصف حال أهل الأهواء، من ذلك: قول شيخ الإسلام: «أَهْل الْكَلَامِ أَكْثَر النَّاسِ انْتِقَالًا مِنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ، وَجَزْمًا بِالْقَوْلِ فِي مَوْضِعٍ وَجَزْمًا بِنَقِيضِهِ وَتَكْفِيرِ قَائِلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، مع أنه كان قبل قليل يقول به لكنه انتقل منه، وَهَذَا دَلِيلُ عَدَمِ الْيَقِينِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ كَمَا قَالَ فِيهِ قَيْصَرُ لَمَّا سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ -  صلى الله عليه وسلم -: هَلْ يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ سَخْطَةً لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا خَالَطَ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ».

فهذا فيه عبرة وعِظة من حال أهل الأهواء أنَّهم لا قرار لهم ولا ثبات، وأنَّهم دائماً وأبداً في تنقُّل واضطراب وتذبذب قال قتادة: «لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرَّق».

وصف أهل الأهواء

      ومِمَّا وصف به أهلُ العلم أهلَ الأهواء، وبيَّنوا فيه حالهم قول أبي المظفَّر السمعاني فيما نقله عنه التيمي وابن القيم، قال: «وأمَّا إذا نظرتَ إلى أهل البدَع رأيتَهم متفرِّقين مختلفين شيعاً وأحزاباً، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يُبدِّعُ بعضُهم بعضاً، بل يرتقون إلى التكفير، يُكفِّرُ الابن أباه، والأخُ أخاه، والجارُ جارَه، وتراهم أبداً في تنازعٍ وتباغضٍ واختلاف، تنقضي أعمارُهم ولم تتَّفق كلماتُهم».

      وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: «كانوا يرون التلوُّنَ في الدِّين من شكِّ القلوب في الله -عزَّ وجلَّ»، وقال مالك بن أنس: «الداءُ العُضال: التنقُّلُ في الدِّين»، وقال: «قال رجل: ما كنتَ لاعباً به، فلا تلعبنَّ بدينِك»؛ فمَن ينظر إلى حال أهل الأهواء يَجدُ أنَّ حالَهم في حقيقة الأمر لعبٌ بالدِّين؛ تنقُّلٌ، آراءٌ، عقلياتٌ، أفكارٌ، أشياء من هذا القبيل وأشياء متجددة وأمور متنوِّعة ومختلفة لا ثبات لهم ولا قرار، ويكثر فيهم الاضطراب والتعارض والتناقض والشك، حتى إنَّه مرة جاء أحد أهل السُّنَّة إلى أحدِ كبار رؤوس علماء الكلام وكان هناك متكلمان في حوار وفي حيرة وشكٍّ واضطراب، فدخل عليهم أحد أهل السنة فسألاه: ماذا تعتقد؟ قال: أعتقدُ ما يعتقده المسلمون - يعني مِمَّا جاء في كتاب الله وسنَّة رسوله -  صلى الله عليه وسلم - فقالا له: وأنت مُطمئنٌّ بذلك مرتاح ؟ قال: نعم، قال: أمَّا نحن فواللهِ ما ندري ما نعتقد؟ والله ما ندري ما نعتقد؟ والله ما ندري ما نعتقد؟ لأن المسألةَ عندهم أصبحت جدلاً وحواراً وما إلى ذلك، فالذي ينظر في حال أهل الأهواء يجد فيهم العِظةَ والعِبرةَ، وكما قدَّمت السَّعيد من اتَّعظ بغيره، فصاحبُ السُّنَّة يَحمد الله -عز وجل- على السُّنَّة، ويسأله -تبارك وتعالى- أن يُثبِّتَه عليها.

 

الأمر الخامس عشر: اتِّفاقُ كلمتهم وعدمُ تفرُّقهم في الدين

     من أسباب ثباتهم على الاعتقاد الحقِّ: اتِّفاقُ كلمتهم وعدمُ تفرُّقهم في الدين، أمَّا أهل الأهواء فقد{فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم:32)، أمَّا أهل السُّنَّة كلمتهم متَّفقة، وليس عندهم تفرُّقٌ أو اختلاف في دين الله، على جادَّة سويَّة وصراطٍ مستقيم، يتعاهدون ذلك ويتواصون به ويصبرون عليه. قال أبو المظفر السمعاني: «ومِمَّا يدلُّ على أن أهل الحديث على الحقّ أنك لو طالعتَ جميع كتبهم المصنَّفة من أوّلها إلى آخرها، قديمها وحديثها، وجدتَها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كلِّ واحد منهم قطراً من الأقطار، في باب الاعتقاد على وتيرةٍ واحدةٍ ونمطٍ واحدٍ، يجْرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها، قلُوبهم في ذلك على قلبٍ واحد، ونقلُهم لا ترى فيه اختلافاً ولا تفرّقاً في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسانٍ واحد، وهل على الحق دليل أبيَن من هذا؟ قال الله -تعالى-: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(النساء:82)، وقال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}(آل عمران:103)»؛ فهذا أيضاً من الأسباب العظيمة التي أدَّت إلى ثبات أهل السُّنَّة على الحقِّ، واستقامتهم على العقيدة الصحيحة، وسلامتهم من الانحراف والتلوُّن والتغيُّر.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك