الشيخ البدر: العاقل يصلح أعماله ويحاسب نفسه
ما زلنا في استعراض أهم ما جاء في محاضرة الشيخ عبدالرزاق عبد المحسن البدر التي كانت بعنوان: (المتجر الرابح) التي تحدث فيها عن بعض الأصول والجوانب العظيمة المتعلقة بالعمل الصالح، ومما ذكرناه في العدد الماضي، مكانة العمل الصالح ومنزلته العلية، واقتران الإيمان بالعمل الصالح، وثمار العمل الصالح وآثاره على العبد، وما العمل الصالح؟ وبمَ يكون العمل صالحًا؟
تقديم الفرائض على النوافل
من الأسس المهمة التي بينها الشيخ البدر أنه في باب العمل الصالح تُقدَّم الفرائض على النوافل، فمن شغَله فرضٌ عن نفل فهو معذور، أما من شغَله نفلٌ عن فرضٍ فهو مغرور، فكيف يُشتَغل بالنوافل عن الفرائض؟ أرأيتم لو أنَّ شخصًا سهر ليله يقرأ القرآن -وهذا نفل يثاب عليه- لكن لو ترتب على ذلك إضاعة لصلاة الفجر فهو آثم في ذلك السهر؛ لأنه على حساب الفرض، فكيف بمن يسهر على معاصٍ وآثام وأمور تسخط الله -تبارك وتعالى-، ثم يُتبِع ذلك بنوم وإضاعة لصلاة الفجر، فأين مقام الأعمال الصالحات والعناية بها؟. قال -تعالى- في الحديث القدسي: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِه، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».
أهل الإيمان في الأعمال متفاضلون
وإذا كانت الأعمال في نفسها متفاضلة، فإنَّ أهل الإيمان في الأعمال متفاضلون، ليسوا على درجة واحدة، بل بينهم تفاوتٌ عظيم وتباينٌ كبير، ولا أطيل في هذا لكني أشير فيه إلى قول الله -سبحانه-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا }(فاطر:32-33)؛ فانظر هذا التفاضل بينهم، وأنهم على أقسام ثلاثة، وأيضاً تحت كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة يتفاوتون، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} ظلم نفسه بالذنوب والمعاصي فيما دون الكفر والشرك بالله، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}: أي مقتصر على فعل الواجبات وترك المحرمات، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}: أي فعَل الواجب وترَك المحرم ونافس في الرغائب والسنن والمستحبات،
وقُدِّم في هذه الآيات الظالم لنفسه لئلا يقنط، وأخِّر السابق بالخيرات لئلا يصاب بالعجب، وسبْقه بالخيرات فضل تفضَّل الله به عليه {بِإِذْنِ اللَّهِ}، والله -جل وعلا- هو المتفضل والمنان: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (النور:21).
الإعانة من الله -تعالى
ولهذا مما ينبغي أن تفقهه في هذا المقام: أنَّ الأعمال الصالحات والطاعات الزاكيات لا يمكن أن تقوم بشيء منها إلا إذا أعانك الله ويسَّر لك ذلك، وشرح صدرك للقيام به، قد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ابن جبل: «يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ، قَالَ : أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ».
البعد عن السآمة والملل
ومما يجدر بالمسلم أن يلاحظه في هذا الباب (باب الأعمال الصالحات) أن يُبعد عن نفسه الأمور التي تكون بها السآمة والملل من العمل، ومن ثَمَّ الانقطاع، وهذا يحصل لكثير من الناس، قد جاء في الصحيح أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - سُئل: «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟» قَالَ: «أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ»، مثلاً ركعتان تصلِّيهما كل ليلة خير لك وأعظم من أن تصلي ليلةً صلوات عديدة أو ثلاث ليال أو أربع أو خمس ثم تترك الصلاة، تمل من الصلاة وتتركها، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما مر معنا لما سُئل « أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟» قَالَ: «أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ»، وقال: «عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»، فيأتي الإنسان من الأعمال والنوافل الشيء الذي يطيق، لكن الفرائض يلزم نفسه بها إلزاماً؛ لأنه يعاقب على تركها، ويعرِّض نفسه لعقوبة عظيمة على تركها، أما النوافل يأخذ منها ما يمكنه المداومة عليه وإن كان قليلاً، فالأحب إلى الله -سبحانه وتعالى- من العمل أدومه وإن قَلّ.
خير الناس من طال عمره وحسن عمله
وإذا فسح الله لعبدٍ في عمره، فعليه أن يذكر أن خير الناس، من طال عمره وحسن عمله روى الترمذي وغيره أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، وأن يذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ»؛ فيجتهد في الاستكثار من الطاعات والقيام بالأعمال الصالحات والتوبة والإقبال على الله -سبحانه وتعالى-، ولاسيما إن كان قد أسرف على نفسه وفرَّط، ماذا ينتظر في إسرافه وتفريطه؟ أينتظر أن يغادر هذه الحياة مسرفاً مفرطا؟
عدم الاغترار بالعمل
ثم أكد الشيخ البدر أنَّ الإنسان إذا وُفِّق لشيءٍ من الأعمال -قلَّت أو كثرت- فعليه ألا يغتر بأعماله حتى وإن كثرت وتعدَّدت، وليذكر حال المؤمنين الذين ذكرهم الله -سبحانه وتعالى- في سورة المؤمنون قال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، وقد سألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- النبي - صلى الله عليه وسلم - عن معنى هذه الآية قالت: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَهُوَ يَخَافُ أَلَا يُقْبَلَ مِنْهُ»، ولهذا صحَّ في الحديث أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ». فعلى العبد ألا يغتر؛ فأعمالك هذه ماذا تكون في جنب إحسان الله عليك في هذه الحياة الدنيا؟ فلا يغتر الإنسان بأعماله، بل يحرص على الإكثار من الأعمال الصالحات، ويسأل الله -تبارك وتعالى- القبول والرضا والتوفيق.
العمل الصالح بعد الموت
ثم في هذا الباب (باب الأعمال الصالحة) لا يغِب عن المؤمن الحصيف العمر الثاني للأعمال بعد موته، وهذا جانبٌ في الأعمال لا يفطن له إلا الموفَّقون ممن يوفقهم الله -سبحانه وتعالى-؛ فيكون للواحد منهم عمُر آخر في باب الأعمال بعد موته وهو العمر الثاني، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، وقال في الحديث الآخر: «سبع يجري للعبد أجرهن من بعد موته وهو في قبره: من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته».
ولهذا من العجب أن أناساً في قبورهم وكل يوم وليلة تجري لهم الأجور ويتضاعف الثواب، وأناس آخرون يمشون على الأرض وتمر الليالي والأيام والشهور ولا يحصِّلون أجراً، بل يحصِّلون إثماً ووزرا، فيا سبحان الله في التفاوت والتباين! إنسان ميت في قبره، وتنهال الأجور عليه وتتوالى، وآخر يمشي على وجه الأرض تمر الأيام والشهور بل والسنون لا يحصِّل أجراً، إنما يحصِّل إثما ووزراً والعياذ بالله؛ فأين التفكير الصحيح ؟ وأين الرشد والوعي والفهم ؟! أين الاعتبار؟!
مقام يحتاج للمجاهدة
وهذا مقام ينبغي على الإنسان أن يجاهد نفسه على الفقه فيه، ثم يجاهدها على العمل حتى لا يأتي عليه يوم يندم ولا ينتفع بندمه، ومن فرَّط أو ضيَّع يندم ندما شديدا في مقاماتٍ عديدة، ولا ينفعه الندم في تلك المقامات.
مواقف يحصل فيها الندم على التفريط
ولهذا جاءت آيات في القرآن الكريم فيها إشارة إلى الندم العظيم الذي يحصُل للكافر ويحصُل للمفرِّط، ولهذا العاقل يعتبر ما دام في ميدان العمل، ما دام في دار العمل، ويُصلح من حاله ويصلح من أعماله، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله -سبحانه وتعالى-، وفي الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» .
ومما يروى في هذا الباب أنَّ أحد السلف أراد أن يعظ رجلاً، فأخذه إلى المقابر، ولما وقف عند القبور قال له: « يا فلان لو كنتَ مكان هؤلاء ماذا تتمنى؟ « قال: « أتمنى أن يعيدني الله للحياة الدنيا لأعمل صالحاً غير الذي أعمله»، فقال له: «يا فلان أنت الآن فيما تتمناه»: أي أنت الآن في دار العمل، والعاقل يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله، ويزِن أعماله قبل أن توزن يوم لقاء الله -سبحانه وتعالى.
لاتوجد تعليقات