رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 21 ديسمبر، 2016 0 تعليق

الشـيـخ الشريم: العمل التطوُّعيُّ وآثارُه في المُجتمع

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (العمل التطوُّعيُّ وآثارُه في المُجتمع)، التي تحدَّث فيها عن العمل التطوُّعيِّ وفوائِده وأهميَّته وآثاره العظيمة في النُّهوض بالمُجتمع المُسلم، مُبيِّنًا الفرق بينَه وبين العمل الخيريِّ، كما ذكرَ أن هناك مُشكلةً في توضِيح آثارِه لعُموم المُسلمين؛ مما أدَّى إلى وقوعِ خلَلٍ مُقارنةً بالعمل التطوُّعيِّ في دول الغربِ، وكان مما جاء في خطبته:

     إن من أهم سِماتِ المُجتمع الناجِح المُتكامِل: أن يكون في بُنيانِه مُتماسِكًا تجمعُه لبِناتٌ مرصُوصَة، تُمثِّلُ حقيقةَ أفرادِه وبَنِيه، لا تختلِفُ فيه لبِنَةٌ عن أُخرى، ولا فرقَ فيها بين ما يكون منها أسفلَ البناءِ أو أعلاه؛ لأن البناءَ لن يكون راسِيًا  يسنُدُ بعضُه بعضًا إلا بهذا المجمُوع، ومتى كان التصدُّع أو الإهمالُ لأي لبِنَةٍ من لبِناتِه، فإنه التفكُّك والانفِطار ما منه بُدٌّ، فضلاً عن أن هذا بدايةُ تفكُّك لبِناتِه وتساقُطها شيئًا فشيئًا. وهذه هي حالُ كل مُجتمعٍ وواقِعُه.

نعم، إنه إذا لم يكُن المُجتمع بهذه الصُّورة، فإنه يأذَنُ لنفسِه بالنُّفرَة والتفرُّق، ويُمهِّدُ الطريقَ لمعاوِلِ الأنانيَّة والأثَرَة، وعدم الاكتِراثِ بالآخرين، وما قيمةُ مُجتمعٍ الهَدمُ فيه أكثرُ من البِناء؟!

     إنه مهما بلغَت الدُّول من العظَمَة، والثرَوات، والتقدُّم الاقتصاديِّ، فلن يكون ذلكم وحدَه كافِيًا في تلبِيَة جميع رغَبَات أفرادِها، وتحقُّق جميع تطلُّعاتِهم لحظةَ الاحتِياج، فضلاً عن تحقيقِها على الدوام، وهنا يأتي دورُ المُجتمع المُترابِط المُتماسِك حينما تُذكَى بين جنَبَاتِه رُوحُ العمل التطوُّعيِّ الذي يُعدُّ رُكنًا أساسًا من أركانِ رَأبِ الصَّدع الشُّعوب، المادِّي، والاجتِماعي، والغِذائي، والأمنِي، والفِكرِي، وغير ذلكم من الضرورات، والحاجِيَّات، والتحسينيَّات.

     إنه حينما يعُمُّ العملُ التطوُّعيُّ جنَبَات المُجتمع، ويفرِضُ نفسَه شُعورًا سامِيًا لذَوِيه وبنِي مُجتمعه، ليقضِيَنَّ على الأثَرَة، والشُّحِّ، والاحتِكار، والمسكَنَة، شريطةَ ألا تغتالَ صفاءَه أبعادٌ مصلحيَّةٌ، أو حِزبيَّةٌ، أو إقليميَّةٌ؛ إذ ليس هناك حدٌّ لمن يحِقُّ له أن يستفيدَ من العمل التطوُّعيِّ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «في كل كبِدٍ رَطبَةٍ أجرٌ»؛ رواه البخاري ومسلم.

العمل التطوعي والعمل الخيري

العملُ التطوُّعيُّ - عباد الله - لا يُحدُّ بحَدٍّ، ولا ينتَهِي بزمنٍ، وانتِهاءُ حدِّه بامتِداد طبيعَتِه. فكلُّ عملٍ احتِسابيٍّ لا نظرَ فيه للأُجرة والمِنَّة فهو تطوعيٌّ إذا كان في وجهِ خيرٍ، وهو مُمتدٌّ ومُتَّسِعٌ بامتِدادِ واتِّساعِ كلمةِ (خير).

     وهو هنا يختلِفُ بعضَ الشيءِ عن العملِ الخيريِّ؛ لأن العملَ التطوعيَّ يكونُ عادةً بالمُبادَرَة قبل الطلَبِ، بخِلافِ العملِ الخيريِّ؛ فإنه - في العادَة - لا يكونُ إلا بعد الطلَبِ، وكِلا العملَين وجهَان لعُملةٍ واحدة، مُحصِّلتُهما: بَذلُ المعروف للناسِ دون أُجرةٍ أو مِنَّة، وإنما يكونُ احتِسابًا لما عند الله، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}(الإنسان: 9).

     إن كل عاقلٍ يُدرِكُ أن قيمةَ المُجتمعات في نهُوضِها، والحِفاظِ على نفسِها من التهالُك والتصدُّع، ويُدرِكُ أيضًا أن العملَ التطوعيَّ مطلَبٌ منشُودٌ في جميعِ الشرائِعِ السماويَّة والوضعِيَّة، في الإسلام وقبل الإسلام، وهو علامةٌ بارِزةٌ على صفاءِ معدن صاحبِه ونخوَتِه وعاطِفتِه ولُطفِه؛ لأن هذه صفاتُ من خلقَهم الله حُنفَاء، فما اجتالَتْهم شياطينُ الأنانيَّة وحبِّ الذَّات.

     ولا أدلَّ على ذلِكم من قَولِ خديجَةَ -رضي الله عنها - تصِفُ حالَ النبي صلى الله عليه وسلم قبل البِعثَة، حينما جاءَها من غارِ حِراء يرتجِفُ بعد أن رأَى جبريلَ -عليه السلام-، فقال لها: «لقد خشِيتُ على نفسي»، فقالت له: “كلا، أبشِر، فوالله لا يُخزِيكَ الله أبدًا؛ والله إن لتصِلُ الرَّحِم، وتصدُقُ الحديثَ، وتحمِلُ الكَلَّ، وتكسِبُ المعدُوم، وتَقرِي الضَّيفَ، وتُعينُ على نوائِبِ الحقِّ” رواه البخاري ومسلم.

فِطرةٌ سوِيَّةٌ في الإسلام

     وإن مما يُؤكِّدُ أن العملَ التطوعيَّ فِطرةٌ سوِيَّةٌ في الإسلام وقبل الإسلام: ما ذكَرَه حكيمُ بن حزامٍ - رضي الله عنه - لرسولِ الله  صلى الله عليه وسلم ؛ حيث قال له: يا رسولَ الله! أرأيتَ أمورًا كنتُ أتحنَّثُ بها في الجاهليَّة؛ من صدقةٍ، أو عَتاقَةٍ، او صِلَةِ رَحِمٍ، أفيها أجرٌ؟ فقال رسولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «أسلَمتَ على ما أسلَفتَ من خيرٍ»؛ رواه مسلم، هذه هي سَعةُ الإسلام وسماحتُه ورحمتُه، إنه الحثُّ على البِرِّ والتعاوُن عليه، وتلمُّس احتِياجات الناس.

ترجُمانٌ لصُورة الإسلام الراشِدة

والعملُ التطوعيُّ إنما هو ترجُمانٌ لصُورةٍ من صُور الإسلام الراشِدة الخالِدة، التي تتَّصِفُ بالشمُوليَّة وتنوُّع مجالات العمل التطوُّعيِّ، لتشملَ الأهدافَ التنمويَّة.

ففي المجال الاقتصاديِّ: يُمثِّلُ العملَ التطوعيَّ: الاهتِمامَ الدقيقَ من خلال بَذلِ الأوقاف، وتفعيلِ الوعي للأنشِطة الوقفِيَّة؛ لأن لها أثَرًا بالِغًا في تنمِيَة الاقتِصاد؛ حيث تتَّسِعُ الحركةُ الماليَّة، مع حِفظِ الأصول المُثمِرة من الاندِثار.

     وقُولُوا مثلَ ذلكم في المجال الفكريِّ، والاجتماعيِّ، والدعويِّ، وما شابَه، شريطةَ أن يخرُج عن إطار الرَّتابَة والبُرُود إلى دائِرةِ المُواكَبَة، ومُسابقَة الزمَن، واستِقطابِ الكفاءَات، وإنشاء مراكِز الدراسات والبُحُوث التي تُعنَى بحاجاتِ المُجتمع وحُلُولها، وتطرَحُ الدراسات العلاجيَّةَ والوِقائيَّةَ من خلال توعِيَة المُجتمع بقِيمة العمل التطوُّعيِّ، وأثَره في التقارُب الاجتِماعيِّ والمعيشيِّ، والإحساسِ الدينيِّ.

ولو نظَرنا نظرَةً خاطِفةً إلى مجالٍ واحدٍ من مجالات العمل التطوُّعيِّ، وهو: سَدُّ العَوزَة والفقر، وإكساب المعدُومين، لوَجدنا أن الذي يُنفِقُه المُوسِرُون على الترفُّه والتحسِينات، ربما سَدَّ حاجةَ فُقراء بلدةٍ بأكملِها.

     ولو نظَرنا إلى كُلفةِ فرَحٍ من أفراح الأغنِياء، لأدرَكنا أن نصفَها لو كان لإطعام يتيمٍ ذي مقرَبةٍ، أو مِسكينٍ ذِي مترَبةٍ، لكان في ذلك من البركَة والزوجَين، وجَبْر كسر قلوبِ الفقراء، واتِّقاءً للعَين والحسَد، والعقوبَةِ على السَّرف والبَذخ، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}(الإسراء: 26، 27).

هكذا علَّمَنا نبيُّنا

     هذا هو دينُنا، وهكذا علَّمَنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، إنه يُريدُ منَّا جميعًا أن نكون أيادِيَ خيرٍ وبناءٍ وسدادٍ، نعملُ ولا نقعُد، ونشعُرُ بالآخر ولا نصُمُّ عنه ونعمَى؛ فقد قال رسولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «على كل مُسلمٍ صدقةٌ». قيل: أرأيتَ إن لم يجِد؟ قال: «يعملُ بيدَيه، فينفَعُ نفسَه ويتصدَّق». قيل: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجةِ الملهُوف». قيل له: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يأمُرُ بالمعروف - أو الخير -». قال: أرأيتَ إن لم يفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ رواه البخاري ومسلم.

     فما قِيمةُ مُجتمعٍ قليلِ الخير - عباد الله -؟! وما ظنُّكم بمُجتمعٍ شرُّه طغَى على خيرِه؟! وأيُّ عقبَةٍ كؤُودٍ أعظمُ من ذلكم؟! ومن هو التقيُّ النقيُّ الذي سيقتَحِمُ هذه العقبَة؟! {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}(البلد: 11- 16).

ظاهرةُ العمل التطوُّعيِّ

     فإن كل مُؤمنٍ غَيُورٍ على أمَّته لتستوقِفُه ظاهرةُ العمل التطوُّعيِّ في هذه الآوِنة؛ حيث باتَت من أبرَز الظواهِر الإنسانيَّة العالميَّة، فقد بلغَت في ديار غير المُسلمين مبلَغًا عظيمًا، مُحاطًا بالدقَّة والإتقان والتفانِي ورُوح الرجُلِ الواحد، في حين إنه ليستوقِفُ المُسلمَ المُراقِبَ ما يُقارِنُه بين العمل التطوُّعيِّ في الغربِ وما وصلَ إليه، وبين العمل التطوُّعيِّ في بلادِ الإسلام، وما يُعانِيه من نقصٍ في المفهُوم الحقيقيِّ له، والإعداد المُتقَن، ونسبةِ التأخُّر والتراجُع عما هو عليه المفهومُ عند الآخرين.

ليس إجباري

إن من المُؤسِفِ جدًّا: أن تكون جُملةٌ من النماذِج للعمل التطوُّعيِّ في المُجتمعات المُسلمة تُقدَّمُ لهم على صُورةِ عملٍ إجباريٍّ، أو واجِبٍ لا يُمكن التراجُع عنه، قبل أن يسبِقَ ذلكم تهيِئةٌ نفسيَّةٌ، ودينيَّةٌ، اجتِماعيَّةٌ لفَهم هذا العمل الجَليل.

     إذ لا يُمكن أن يُدرِك طُلابُ المدارس أو الجامِعات معنى العمل التطوُّعيِّ مثلاً حينما يُزَجُّ بهم في وادٍ أو حيٍّ أو طريقٍ ليقُوموا بتنظِيفِه، عملاً تطوُّعيًّا بقالَبٍ إجباريٍّ؛ لأنه أمرٌ من المدرسَة أو الجامِعة أو المعهَد أو ما شابَه، دون أن يسبِقَ ذلكم المُقدِّمات الأساس لإذكاءِ قيمة هذا العمل الشريف، وأن يسبِقَ ذلكم عُنصُرُ التخلِية والتصفِية لشوائِبِ المِنَن التي اعتادَ عليها المُجتمع في حياتِه مُقابِلَ كل عملٍ يكون. وهذا ما يتعارَضُ مع العمل التطوُّعيِّ من بدايتِه؛ لأن العمل التطوُّعيَّ يتطلَّبُ قُدرةً فائِقةً على العطاء دون مِنَّةٍ أو ترقُّبِ أُجرةٍ، بل إن مبعَثَه الحبُّ والعطفُ والإحسانُ الذي لا يكترِثُ بماهيَّة الردِّ، وإنما يحرِصُ على رِضا الضمير، وخُلُوِّه من التقصير والخُذلان تُجاه مُجتمعه. راحَتُه وسعادتُه تكمُنُ في رَسمِ ابتِسامةٍ على مُحيَّا مسكِينٍ، أو سماعِ تمتَمَاتٍ بالدُّعاءِ على لسانِ ملهُوفٍ مكرُوبٍ.

     ولا يُمكنُ لنا أن نتصوَّرَ حُبًّا بلا عطاءٍ، ولا أن نتصوَّرَ عطاءً بلا حبٍّ، كما أنه لا يكون مُكتمِلاً ناجِحًا دون أن يكون عملاً مدرُوسًا مُنظَّمًا، يعُمُّه الفهمُ والإدراكُ للدوافِعِ والمهارات والمُقوِّمات الشخصيَّة، والمبادِئ المُعرِّفة بالعمل بالتطوُّعيِّ ونُبْلِه، وأثَره على المُجتمع المُكوَّنِ مني ومنك - أيها المُسلم -، ووالدَيَّ ووالدَيك، وقرابَتِي وقرابَتِك، وجِيرانِي وجِيرانِك، والمُجتمعُ الناجِحُ الكريمُ البارُّ: هو من لا ينتظِرُ أحدًا يقولُ له: أعطِني؛ لأن يدَه تسبِقُ سمعَه، وفِعلَه يُغنِي عن قولِه.

     وما أحوَجَنا جميعًا في هذا الزمَن الذي كثُرَت فيه الحروبُ والكروبُ، وطالَت نيرانُها إخوةً لنا في الدين، سُقُوفُهم قد وكَفَت، وجُدرانُهم قد نزَّت، لا تكادُ تمنعُ عنهم بردًا ولا بلَلاً، كما هو مُشاهَدٌ في أقطارٍ كثيرةٍ من بلاد المُسلمين، ما يستَدعِي شحذَ الهِمَم، وإذكاءَ العمل التطوُّعيِّ بكل وجوهِه وصُوره، وعلى رأسِها: شُريانُ الحياة الذي هو المال.

فاللهَ اللهَ في إخوانِنا وبنِي مِلَّتِنا، ولنُشمِّر عن سواعِد الجِدِّ والبَذلِ والتضحِيات؛ فإن النِّعمَ لا تدُوم، وإن مع اليوم غدًا، وإن بعد الحياة موتًا، وبعد الموت حِسابًا، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(الأنفال: 28).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك