رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 1 ديسمبر، 2017 0 تعليق

السّلفيّةُ بين المنهجِ والمَذْهب

المفروض أن تكون العلاقة بين المنهج والمذهب علاقة تكامل لا علاقة تضاد وتناقض كما يتوهم بعض الناس، والسلفية حين تُؤْخَذُ على أنها مجرد منهج وطريقة سيكون حينئذٍ من السهل وقوع التجاذب الداخلي فيها، وقابليتها للتأثر بالواقع الفكري مالم يستند هذا المنهج إلى مذهبية، والمقصود بالمذهب «منظومة من الحقائق المتماسكة والمتكاملة التي تفسر الوجود والكون والحياة والإنسان والعلاقات بينها، والمنهج هو الطريق التي تُسلك لبناء هذه المنظومة وتطويرها».

      فالمنهج آلية تطويرية للفكرة كما يمثل دور الراعي لها والموجه، بينما المذهب هو الوعاء أو المنظومة التي يتحرك ضمنها المنتمي، ولا يخفى على القارئ أننا لا نعني بالمذهب التزام مذهب فقهي معين؛ فالسلفية في هذا الأمر واسعة ومتسعة وتحتمل الخلاف أكثر من غيرها، إنما نقصد بالمذهب كما مر معنا النظرة العامة للكون والحياة، التي تظهر في الأداء العملي والتعاطي مع القضايا القديمة والحادثة، وهذا العرض يستدعي منا تناول مقومات السلفية المنهجية والموضوعية؛ لأن شرح المضمون يُبَيِّنُ المراد.

المقومات المنهجية

     وهي متمثلة في اعتماد الكتاب والسنة وتقديمهما على المصادر جميعها، وهذا المقوم يُعدُّ مهمًّا لفهم طريقة السلفية في التعاطي مع القضايا، وقد تم تناوله تحت مسميات عدة، منها إشكالية العقل والنقل، أو تقديم العقل على النقل، ولا يعنينا هنا أي العناوين أوفق في التعبير عن العلاقة بين الوحي والعقل، لكن الذي يَهُمُّنَا هو ما يدخل تحت إطار هذا العنوان بوصفه مُقَوِّمًا منهجيًّا للسلفية، ولا شك أن هذا المقوم تدخل تحته قضايا عدة منها:

نفي العصمة عن غير الأنبياء

      أولًا: نفي العصمة عن غير الأنبياء مهما بلغوا من العلم؛ فالسلفيون «يؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد -صلى الله عليه وسلم - على هدي كل أحد، وبهذا سُمُّوا أهل الكتاب والسنة.

اعتماد الكتاب والسنة في الاستدلال

      ثانيًا: اعتماد الكتاب والسنة في الاستدلال في قضايا التوحيد والبعث، ويكون دور الباحث هو تقريبهما وتفسيرهما دون أن يستمد أدلة فلسفية قد تناقضهما؛ ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مؤكدًّا لهذه القضية: «فما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردّونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف؛ فما كان من معانيها موافقًا للكتاب والسنة أثبتوه؛ وما كان منها مخالفًا للكتاب والسنة أبطلوه.

اعتماد تفسير الصحابة

     ثالثًا: اعتماد تفسير الصحابة لتلقيهم المباشر عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم - ولاكتمال أدواتهم المعرفية، «فالنبي-صلى الله عليه وسلم - بيَّن لأصحابه القرآن لفظه ومعناه؛ فبلَّغهم معانيه كما بلغهم ألفاظه، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا بذلك، قال -تعالى-: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} (النحل:44).

       وقال:{هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} (آل عمران:138)، وقال -تعالى-: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون} (فصلت:3). أي بُيِّنَت وأُزيل عنها الإجمال، فلو كانت آياته مجملة لم تكن قد فُصِّلت، وقال -تعالى-: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِين} (النور:54). وهذا يتضمن بلاغ المعنى وأنه في أعلى درجات البيان.

الاعتداد بالإجماع والقياس

      رابعًا: عَدُّ الإجماع والقياس مصدرَين يليان الكتاب والسنة، ويرجع إليهما في المقاصد والقواعد الكلية، وتكون السلفية بهذين المصدرين جمعت بين الاجتهاد والانضباط الفقهي المراعي للتراكمات العلمية وحجم المنجزات المعرفية والبناء عليها، قال شيخ الإسلام مؤكدا على أهميته: «وَالْإِجْمَاعُ: هُوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ؛ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّين» ويؤكد تلميذه ابن القيم على القياس في الشرع فيقول: «والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه، وقد وردت كلها في القرآن، فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله -عز وجل- في مواضع، منها قوله -تعالى-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونْ} (آل عمران:59).

      فأخبر -تعالى- أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات، وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه، فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم؟ ووجود حواء من غير أم؟ فآدم وعيسى نظيران يجمعهما المعنى الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به، ومنها قوله -تعالى-: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين} (آل عمران:137).

      أي: قد كان من قبلكم أمم أمثالكم فانظروا إلى عواقبهم السيئة، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله، وهم الأصل وأنتم الفرع، والعلة الجامعة التكذيب، والحكم الهلاك.

التجديد والاجتهاد

      خامسًا: التجديد والاجتهاد: انطلاقًا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدِّد لها دينها»، «والتجديد في المفهوم السلفي هو تطهير الدين مما لحق به من شوائب في أفهام الناس وسلوكهم حتى تعود له في حياتهم نصاعته الأولى، أَمَّا الاجتهاد فإنه العملية التي تتم بها تغطية حياتهم المتجددة بالأحكام الشرعية المستمدة من الشريعة؛ فهو حركة حية للربط بين الواقع البشري في كل زمن، وتعاليم الشريعة المستوحاة من القرآن والسنة.

شمولية الإسلام

       سادسًا: شمولية الإسلام: وهي تعني أن الإسلام متكامل في أحكامه ويتناول حياة الإنسان عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا وسلوكًا، هذا عن المقومات المنهجية فماذا عن المقومات الموضوعية؟

المقومات الموضوعية

       والمقومات الموضوعية تتمثل في الموقف من قضايا كلية كوجود الله؛ فهم يؤمنون أن هذا الكون مخلوق لخالق عظيم، ويجب على الخلق عبادته، وهذه العبادة لا تَأَتَّى إلا بموافقة ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وصلاح البشرية يكون باتباع ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ «فإن الله بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم - بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكان قد بُعث إلى ذوي أهواء متفرقة وقلوب متشتتة وآراء متباينة، فجمع به الشمل، وألَّف به القلوب، وعصم به من كيد الشيطان.

الناس ينقسمون إلى مؤمنين وكفار

      ثم الناس بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقسمون إلى مؤمنين وكفار، فحَقُّ المؤمنين الموالاة والنصرة والمحبة والنصيحة، ولا يُكفِّرون معيَّنًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستَحِلُّه، ولا يحكمون على مُعَيَّنٍ بجَنَّةٍ ولا نار، ويرون أن الكافر مادام حيًّا ترجى له التوبة ثم المعاملة وفق الشرع؛ إِمَّا بالحسنى إن كان مقسطًا مع أهل الإيمان، وبالقتال إن كان مقاتلًا لهم في الدين.

التحسين والتقبيح

       وفي جانب التحسين والتقبيح يرون أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها بالطبع؛ لكن ترتيب الثواب والعقاب والتفصيل في أمر الحسن والقبح موكول إلى الشرع، ولا يمكن للعقل أن يستقِلّ بالحكم فيه.

يرون أن الله خالق الكون ومدبره

       وفي السببية يرون أن الله خالق الكون ومدبره، وجعل له سننًا يسير وِفْقَهَا، وخلق الأسباب وجعل لها تأثيرا في مُسَبَّبَاتِهَا، وكل ذلك جارٍ بأمره وإذنه؛ فمذهب السلف «إثبات الْحِكَمِ والأسباب والغايات المحمودة في خلقه -سبحانه -وأمره، وإثبات لام التعليل وباء السببية في القضاء والشرع كما دلت عليه النصوص مع صريح العقل والفطرة، واتفق عليه الكتاب والميزان».

النُّظُمَ السياسية والأخلاقية

       كما يرون أن النُّظُمَ السياسية والأخلاقية مرتكزها هو الأسس العقدية، وتتكون من خلال الأحكام الشرعية المنصوصة في الكتاب والسنة، وما جرت عليه الشريعة في خطابها من قصد جلب المصالح ودرء المفاسد دنيا وأخرى، وهذا القسم معروف في باب التحسينات من الأصول؛ لأن التحسينات: هي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات والتيسير للمزايا والمراتب، ورعاية أحسن المناهج في العبادات والمعاملات، والحمل على مكارم الأخلاق.

نظرة أخلاقية

      ومن هنا نظروا للذَّة نظرة أخلاقية لا تحصرها في الشهوة بقسميها شهوة البطن والفرج، بل رأوا أن اللذَّات أنواع؛ لذَّات الدنيا ولذَّات الأخرى، فجعلوا الأخيرة مقصدًا والأولى تابعة، ومن ثمَّ فإن الأخلاق الحسنة – من حيث هي- أوصاف طبَعيَّة للإنسان لا يثاب عليها ولا يعاقب إلا إذا وظَّفها توظيفًا حسنًا أو سيِّئًا، فـكل صفة جبِلِّيَّة لا كسب للمرء فيها، كحسن الصُّوِر، واعتدال القامات، وحسن الأخلاق، والشجاعة والجود، والحياء والغيرة، والنخوة وشدة البطش، ونفوذ الحواس، ووفور العقول، فهذا لا ثواب عليه مع فضله وشرفه؛ لأنه ليس بكسب لمن اتُّصِف به، وإنما الثواب والعقاب على ثمراته المكتسبة، فمن أجاب هذه الصفات إلى ما دعت إليه الشريعة كان مثابًا على إجابته، جامعًا لصفتين حسنتين: إحداهما: جبِلِّيَّة، والأخرى كسْبِيَّة، ومن لم يجب إلى ذلك كان وصفه حسنًا وفعله قبيحًا، وأما ما يصدر عن هذه الأوصاف من آثارها المكتسبة فإن لم يُقصد بها وجه الله فلا ثواب عليها، وإن قُصد بها الرياء والتسميع أثِم بذلك، وإن قصد بها وجه الله -تعالى- أُجِر وفاز بخير الدارين ومدحهما.

شمولية الفكرة السلفية

      ويحسن بنا بعد هذا العرض الموجز عن المقومات المنهجية والموضوعية للسلفية ودورها في تكوين فكرة المذهبية المرتبطة بالمنهج أن نؤكد على شمولية الفكرة السلفية بناء على ما سبق، وأن الإطار المنهجي الجامع في الفكر السلفي هو الإطار المذهبي نفسه، أما ما يحاوله بعضهم من تشغيب على خلط السلفيين بين مسائل الاعتقاد والعمل؛ فإن ذلك عن وعي، فهم حين يذكرون المباح أو المندوب في باب العقائد وينُصُّون عليه فإنهم في ذلك يؤكدون نظرتهم الشمولية للدين، والتي تأخذ بالاعتبار إلزامية الشرع؛ فهم حين يذكرون المسح على الخفين أو يذكرون طاعة السلطان فإنهم يذكرونها ويقررونها ردًّا على من أنكرها، وليس تشديدًا فيها، تمامًا مثل المسلم الذي يؤكد على أن من دينه شرب اللبن في مقابل من يرى حرمته، أو أن من دينه ترك لحم الخنزير في مقابل من يرى حِلِّيَّته، فذِكْر هذه المسائل في أبواب الاعتقاد هو لتبيين نوع الاعتقاد الصحيح فيها، إِمَّا بالمشروعية إن كانت مشروعة، أو بالحرمة إن كانت محرّمة، وهذا هو منهج القرآن في تقرير المسائل؛ فهو يقرر المسائل الاعتقادية في ثنايا تقرير المسائل العملية، كما وقع في سورة الطلاق وفي غيرها.

        أما المذهبية الفقهية، فما كان منها جارٍ على أصول أئمة المذاهب فالخلاف فيه سائغ، والمختلفون بين مصيبٍ له أجران وبين مخطئ له أجر واحد، ولا يُعيّن أتباع المنهج السلفي مذهبًا من المذاهب على أنه هو الحق وما سواه باطل، بل يُقرُّون بأن الحق تفرّق في العلماء؛ لأنهم ورثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحجب أحد منهم الآخرين، لا حجب نقصان ولا حجب حرمان.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك