السياسة الشرعية (4) قلة اجتماع الأمانة والقوة في الناس
بينا قبل ذلك أن ولاة الأمور يجب عليهم اختيار من تتوافر فيهم القوة والأمانة؛ لكي يساعدوهم في رعاية مصالح الرعية. ولكن ما الحل إذا لم يوجد من تجتمع فيه هاتان الصفتان؟ فتجد مثلاً الذي ليس أهلاً لوظيفة ما من حيث الأمانة، وتجده قوياً نشيطاً في إنجاز الأعمال، وتجد الرجل الأمين قد يفقد القوة اللازمة لتسيير أمور تلك الولاية؛ ولذلك تجد الذين يولون الناس يختارون الأول الذي ينجز أعمالهم وإن لم يكن أميناً.
«اللهم إني أشكو إليك جَلد الفاجر وعَجز الثقة»، هكذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما لم يجد من هو أهل للولايات، فالأول: قوة بلا أمانة، والثاني: أمانة بلا قوة، وهذا في زمن الفاروق, فما بال زماننا هذا؟!
فالواجب اختيار الأصلح لكل ولاية بحسبها, فإذا وُجد رجلان أحدهما أعظم أمانة, والأخر أعظم قوة قدِّم أنفعهما للناس وأقلها ضررًا، فإمارة الحروب يتقدم لها الرجل الشجاع القوي حتى وإن كان فاجراً، وفي هذا سُئِل الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أيهما أفضل للغزو الرجل القوي الفاجر أم الضعيف الصالح؟ ومع من يُغزى؟ فرد قائلاً: القوي الفاجر؛ لأن قوته للمسلمين وبها يعود النفع عليهم وفجوره على نفسه فقط، والصالح الضعيف صلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر». رواه البخاري.
ولهذا استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على الحرب منذ أن أسلم, مع أنه قد يفعل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده إلى السماء قائلاً: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد» رواه البخاري، وكان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع ذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفاً.
وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أقوى وأشد وجب عليك تقديم الأمين في حفظ الأموال وغيرها، ولكن ما المانع في اشتراك الاثنين معاً في ولاية واحدة؟ فمثلاً ولاية القضاء تحتاج الأعلم والأورع، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع، قدِّم من يُظهِر الحق ويخاف أن تحيد نفسه عن الحق: الأورع، ويكون نائبه الأعلم فيما يدقق الحُكم ويخاف فيه الاشتباه. وإذا أردنا أن نولي ولاية لرجل قوي لكنه ليس أميناً فما المانع أن نضم إليه رجلاً أميناً يعينه ويذكره، وكذلك إذا كان أميناً ولكنه ليس بقوي نضم له إنساناً قوياً يساعده في إنجاز الأعمال سواء أكان نائباً أم مساعداً، يرجع إليه في الأمور وإذا رأى فيه تقصيراً أمره أن يتم الأمر. وخير مثال لهذا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ فإذا كان أبو بكر رقيق القلب حانياً اشتد عمر، وإذا كان الصديق قوياً عازماً على إنفاذ أمره لان عمر ورقَّ حاله كما حدث في حروب الردة.
ولذلك أقول: إن أصواتنا الانتخابية هي أمانة سيحاسبنا الله عز وجل عليها؛ فيجب أن نعطيها لمن يستحق، فلا يجوز أن يكون معيار اختيار نائب مجلس الأمة حسب الغِنَى والفقر أو العصبية القبلية، ولكن يجب أن نفكر أولاً في طبيعة هذا النائب أيصلح لتلك المهمة أم لا؟ هل لديه القوة والأمانة على تشريع القوانين التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية أم لا؟ فوالله لو تحقق هذا في زماننا لعم العدل وقل الظلم وانتشر الخير على عامة الناس وتحققت مطالب المواطنين دون الحاجة إلى الرشوة أو المحسوبية أو الواسطة التي تفسد علينا حياتنا بما فيها من ضياع الحقوق ووصولها إلى
لاتوجد تعليقات