السياسة الشرعية النبوية بين التوكل والأخذ بالأسباب (2) وثيقة المدينة مع اليهود.. ملامح ومعالم
فقد ذكرنا في مقالِنا السابق معالِم المرحلة المكية في مواجهة الشِّرْك والمشركين، وأنها كانت مواجَهة منهجية ودعوية لم يؤذن فيها للمسلمين بالقتال ولا حَمْلِ السِّلاح، وكانت الأوامر القرآنية للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالثبات وعدم المُداهَنة، وعدم الركون إلى الكافرين، قال الله -تعالى-: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم:9)، وقال: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} (الإسراء:74)، وقال -سبحانه- للمؤمنين: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (هود:113).
وكلها في تمام الوضوح في الحفاظ على ثوابت الدين والمنهج، وعدم قبول الباطل أو الرِّضا به أو التعاون مع أهلِه عليه، ولم يكن تركُ قتالِهم بمقتضٍ لموالاتهم أو الركون إليهم؛ فليس كل مَن تركتم قتالَه تكونون قد رَكَنتم إليه أو داهَنتموه كما يحسب بعضهم ذلك!
المرحلة الثانية
ثم كانت المرحلة الثانية بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وتأسيس الدولة المسلمة، وكان واقعُ المدينة في بداية الدولة وجود ثلاث طوائف دينية:
- أولاً: المسلمون مِن المهاجرين، ومِن الأوس والخزرج.
- الثانية: المشركون عُبّاد الأوثان الذين لم يؤمنوا مِن الأوس والخزرج، ومَن حالَفهم.
- الطائفة الثالثة: اليهود وقبائلهم الثلاث المشهورة: «بنو قينقاع - وبنو النضير - وبنو قُريظة».
ولنعرِض لما ذُكِر في السُّنَن والسِّيَر لما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من حِلْفٍ بيْن المسلمين مِن قريش والأنصار، يظهر فيه بعض الشروط على المشركين الذين لم يُسلِموا، ثم ما كان بيْن النبي -صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود، مع الانتباه أن السِّيَر لا يشترط فيها مِن الإسناد ما يُشترط في الأحاديث، لكن ما يترتب عليه أحكامٌ شرعيةٌ لا بد فيها مِن صحة الإسناد، أو دليل آخر مِن الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، وغير ذلك مِن الأدلة.
الأُلفة بيْن المهاجرين والأنصار
قال ابن كثير -رَحِمه الله- في البداية والنهاية: «فصلٌ في عَقْدِه -عليه الصلاة والسلام- الأُلفة بيْن المهاجرين والأنصار، مِن الكتاب الذي أمَر به فكُتِب بينهم، والمؤاخاة التي أمَرَهم بها وقرّرهم عليها، وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة.
قال: وكان بها مِن أحياء اليهود (بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة) وكان نزولهم بالحجاز قبْل الأنصار أيام بُخْتُ نَصَّرَ، حين دوّخ بلاد المقدس -فيما ذكره الطبري-، ثم لما كان سيلُ العَرِم وتفرقت سبأ شَذَر مَذَر؛ نزل (الأَوسُ والخَزْرَجُ) المدينةَ عند اليهود، فحالفوهم وصاروا يتشبهون بهم؛ لما يرون لهم عليهم مِن الفضل في العلم المأثور عن الأنبياء، لكن مَنَّ الله على هؤلاء الذين كانوا مشركين بالهُدى والإسلام، وخذل أولئك؛ لحَسَدِهم وبَغْيِهم واستكبارهم عن الحق.
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك، قال: «حالَف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك»، ورواه البخاري ومسلم وأبو داوود مِن طرق متعددة. وروى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جَدِّه أن النبي -صلى الله عليه وسلم - «كتَبَ كتابًا بيْن المهاجرين والأنصار أن يعقِلوا معاقِلَهم، وأن يفدوا عانِيَهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين». وروى الإمام أحمد عن ابن عباس مِثلَه، وفي صحيح مسلم عن جابر: «كَتَب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على كل بَطنٍ عُقولَه».
معاهدة اليهود
وقال محمد بن إسحاق: «كَتَب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كتابًا بيْن المهاجرين والأنصار، وادَعَ فيه اليهود وعاهَدَهم، وأقَرَّهم على دينهم وأموالِهم، واشترط عليهم وشرط لهم: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ مِن محمد النبي الأُمِّيِّ -صلى الله عليه وسلم - بيْن المؤمنين والمسلمين مِن قريش ويَثْرِب، ومَن تَبِعَهم فلَحِق بهم وجاهَدَ معهم، أنهم أمةٌ واحدةٌ مِن دون الناس، المهاجرون مِن قريش على رِبعَتهم -أي على ما كانوا عليه في الجاهلية مِن التعاقُل مِن دفع الدِّيات- يتعاقَلون بينهم، وهم يَفْدُون عانِيَهم -أي أسيرَهم- بالمعروف والقِسط، وبنو عوف على رِبعتهم يتعاقلون معاقِلَهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تفدي عانِيَها بالمعروف والقِسط بين المؤمنين. ثم ذكر كلَّ بطنٍ مِن بطون الأنصار وأهل كلِّ دار، وبنو الحارث على رِبعَتِهم يتعاقَلون معاقِلَهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تفدي عانِيَها بالمعروف والقِسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على رِبعَتِهم، وبنو جُشم على رِبعَتِهم، وبنو النجار على رِبعَتِهم، وبنو عمرو بن عوف على رِبعَتِهم، وبنو النبيت على رِبعَتِهم، وبنو أوس على رِبعَتِهم» إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا بينهم -أي: مثقلاً مِن الدَّينِ والعِيال- أن يعطوه بالمعروف في فِداءٍ أو عَقْلٍ.
لا يحالِف مؤمنٌ مَولى مؤمنٍ دونَه
ولا يحالِف مؤمنٌ مَولى مؤمنٍ دونَه -وذلك في الإرث والقرابات-، وإن المؤمنين المتقين على مَن بغى منهم أو ابتغى دَسِيعة ظُلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولَدَ أحدِهم.
لا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر
ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإن مَن تَبِعنا مِن يهود فإن له النصر والأُسوة غير مظلومين، ولا مُتَنَاصَرٍ عليهم -يعني لا يُنصر أعداء اليهود إن قصدهم أحدٌ عليهم-.
سِلْم المؤمنين واحدة
وإنّ سِلْمَ المؤمنين واحدة، لا يُسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواءٍ وعدلٍ بينهم، وإن كل غازيةٍ غزَت معنا يُعقِب بعضها بعضًا، وإن المؤمنين يُبِيءُ بعضهم على بعض -أي يمنع ويكُفّ- بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هديٍ وأقومِه، وإنه لا يُجيرُ مشركٌ مالاً لقُريشٍ ولا نفسًا، ولا يحول دونَه على مؤمنٍ، وإنه مَن اعتبط مؤمنًا قَتْلاً عن بَيِّنة؛ فإنه قَوَدٌ به إلا أن يرضى وَلِيُّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافّة، ولا يحل لهم إلا قيامٌ عليه.
لا يحل لمؤمنٍ أن ينصُر مُحْدِثًا ولا يؤويه
وإنه لا يحل لمؤمنٍ أقرّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصُر مُحْدِثًا ولا يؤويه، وإنه مَن نصره أو آواه فإن عليه لعنةَ الله وغضبَه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صَرفٌ ولا عَدلٌ.
مرد الأمر إلى الله ورسوله
وإنكم مهما اختلفتم فيه مِن شيء؛ فإن مرَدّه إلى الله -عز وجل-، وإلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم -.
اليهود يُنفِقون مع المؤمنين ما داموا محاربين
وإن اليهود يُنفِقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين؛ لليهود دِينٌ، وللمسلمين دِينٌ، ومواليهم وأنفسهم، إلا مَن ظَلَم وأَثِم فإنه لا يُوتِغُ إلا نفسَه -أي: لا يضُرّ إلا نفسَه- وأهلَ بيته، وإن ليهودِ بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جُشم وبني الأوس وبني ثعلبة وجفنة وبني الشُّطَيْبَةِ مثل ما ليهود بني عوف، وإن بِطانة يهود كأنفُسِهم، وإنه لا يُخرَج منهم أحدٌ إلا بإذن محمدٍ -صلى الله عليه وسلم -، وإنه لا ينحَجِز على ثأرِ جُرحٍ، وإنه مَن فَتَكَ فبنَفسِه فَتَكَ وأهلِ بَيتِه، إلا مَن ظلم، وإن الله على أبرِّ هذا، وإن على اليهود نفقَتُهم، وعلى المسلمين نفقَتُهم، وإن بينهم النصر على مَن حارَب أهلَ هذه الصحيفة، وإن بينهم النُّصح والنصيحة والبِرّ دون الإثم.
لا يأثم امرؤ بحليفِه
وإنه لم يأثم امرؤ بحليفِه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يَثْرِب حرامٌ جوفُها لأهلِ هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفْسِ غير مُضارٍّ ولا آثم، وإنه لا تُجار حرمةٌ إلا بإذن أهلِها، وإنه ما كان مِن بيْن أهل هذه الصحيفة مِن حدَثٍ أو اشتجارٍ يُخاف فسادُه فإن مرَدَّه إلى الله وإلى محمدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه -أي شهيد على ذلك-.
وإنه لا تُجَارُ قُريش ولا مَن نَصَرَها، وإن بينهم النصر على مَن دَهَم يَثْرِب، وإذا دُعُوا إلى صُلحٍ يُصالِحونه ويَلبَسونه فإنهم يُصالِحونه ويَلبَسونه، وإنهم إذا دُعُوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا مَن حارب في الدين على كل أناس حِصّتَهم مِن جانِبِهم الذي قِبَلَهم.
وإن يهود الأوسِ مواليهم وأنفسهم على مِثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البِرِّ الحَسَن مِن أهل هذه الصحيفة، وإن البِرَّ دون الإثم، لا يكسِبُ كاسِبٌ إلا على نفسِه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ أو آثم، وإنه مَن خرج آمنٌ، ومَن قعد آمن بالمدينة، إلا مِن ظلم وأثِم، وإن الله جارٌ لمن بَرّ واتقى، ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. كذا أورده ابن إسحاق بنحوه».
ولنا في هذه الوثيقة تفاصيل ومعالم غاية في الأهمية يحتاج إليها المسلمون في واقعهم المعاصِر، وفي بلادهم المختلفة وفي مواجهاتهم التي يواجهون بها أهلَ الشرك والكفر وغيرهم، في مقال قادم -إن شاء الله-
لاتوجد تعليقات