رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أمير الحداد 17 مارس، 2025 0 تعليق

السنن الإلهية (34) إذا عظم المطلوب.. كثرت الموانع

منذ سنة تقريبا أخذ صاحبي يقرأ كتب الإمام ابن القيم -رحمه الله-، ويستمع إلى شروح مؤلفاته حضوريا، أو بواسطة ما انتشر في الوسائل الإلكترونية. - كلما ازدت قراءة لهذا الإمام -رحمه الله- ازددت حبا له، ذلك أنه يزيدني علما وإيمانا ورقة وموعظة. - نعم، ابن القيم له الصدارة في الرقاق والموعظة، مع أنه يورد أحيانا عبارات يصعب على المرء فهمها وتتبعها. ابتسم صاحبي: - كأنك تقرأ أفكاري، نعم واجهت بعض ذلك، وكنت سأسأل عن جملة وردت في (طريق الهجرتين): «كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه هذه سنة الله في الخلق» (ج1/ص370). كنت وصاحبي في طريقنا لتناول وجبة العشاء مساء الثلاثاء، على أن يلقانا (أبو سعد) هناك. استخرجت الكتاب في هاتفي، وجدت العبارة. -  دعني أكمل لك كلام ابن القيم، ثم نعلق. «كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه، هذه سنة الله في الخلق، فانظر إلى الجنة وعظمها وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها، حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها، وانظر إلى محبة الله والانقطاع إليه، والإنابة إليه، والتبتل إليه وحده، والأنس به واتخاذه وليا ووكيلا وكافيا وحسيبا، هل يكتسب العبد شيئا أشرف منه؟ وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه، حتى قد تعلق كل قوم بما تعلقوا به دونه، والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه، والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقه وجمعيته وحظه من ربه، والمطلوب منهم وراء ذلك كله». انتهى. - بالطبع يقصد بقوله: «من كل ألف رجل واحد إليها»، حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله -تعالى-: يا آدم: فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فعندها يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد..» الحديث (صحيح الجامع)، يقول العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعملي -رحمه الله- سنة الله -عز وجل- في المطالب العالية والدرجات الرفيعة، أن يكون في نيلها مشقة ليتم الابتلاء ويستحق البالغ إلى تلك الدرجة شرفها وثوابها، قال -تعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31). بلغنا المكان الذي نريد، يبعد عن مسجدنا كيلو مترين، قطعنا في أقل من خمس دقائ،! تابعت حديثي: الابتلاء بالشدائد سواء كان ذلك من التكاليف التي تشق على كثير منهم كالجهاد والقتال في سبيل الله، أم كان ذلك بما يقع من الهزيمة أو الجراح أو العلل والأوصاب والأمراض أو الفقر، أو غير ذلك مما يتطلب صبرا، فلابد من هذا، فهو القنطرة إلى الجنة، لا يمكن أن يتوصل إلى الجنة إلا بالعبور على هذه القنطرة؛ فإن الجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. ويحتاج العبد إلى توطين النفس على المكاره وتحملها، والمشقات والقيام بالتكاليف، وما إلى ذلك، أما أن يبقى الإنسان يتمنى وبضاعته الأماني، فإن هذا رأس مال المفاليس فهذا التمني من غير بذل الأسباب هو رأس مال المُفلس، والجنة لا تُدرك بالأماني. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين} {آل عمران: 178). فيحتاج إلى تثبيت لهذه النفس، وتوطين، وتصبير، وثقة بعد الله -تبارك وتعالى-، وهكذا الصبر على طول الطريق، وما فيه من العقبات، وما تميل إليه النفس من طلب الراحة والدعة والاسترخاء والترك، وهكذا أيضا من يحيطون به، ويحتفون حينما يلقون إليه مثل هذه الدعوات والوساوس؛ ليلحق بركب القاعدين والمتخلفين والناكثين لعهد الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه-، فصار الجهاد بالقتل للأعداء، وكذلك الجهاد بجميع أنواعه، ومن ذلك بذل العلم والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- كل هذا جهاد، وقد يكون في بعض الأوقات أحد هذه الأنواع أولى وأبلغ من الآخر. وقد ذكر الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- - هذا المعنى، وأنه كلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، يقول: «فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يُدرك النعيم إلا بترك النعيم ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها، ومعرفة ما تؤول إليه تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. كان أبو سعد بانتظار حجز طاولة مميزة، بعد السلام والتحية: - أرى أنكما كنتما في حوار جاد؟ - نعم كنا نتحدث عن الإمام ابن القيم -رحمه الله- وسنة من سنن الله في خلقه، وهي كثرة العوارض في طريق المطالب. - قاعدة جميلة: وهل هي سنة من سنن الله في خلقه؟ - نعم، هكذا وصفها الإمام ابن القيم -رحمه الله- وغيره من العلماء. - أظن أن شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا لمح إلى ذلك في ذكره  لاستشهاد الحسين - رضي الله عنه -. أخرج أبو سعد هاتفه بحث فيه: يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج25 ص302: قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية، وأكرم الله الحسين بالشهادة كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته، أكرم بها حمزة وجعفر وأباه عليا وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل أي الناس أشد بلاء فقال: «الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة» (رواه الترمذي وغيره)؛ فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله -تعالى- ما سبق من المنزلة العالية ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب؛ فإنهما ولدا في عز الإسلام وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستكملا سن التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلي من كان أفضل منهما، فإن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أفضل منهما وقد قتل شهيدا.  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X