السنن الإلهية (19) سنة الله في الرزق
- أطلعني صاحبي على مقطع مصور على هاتفه الذكي لرجل، يزعم أن من دعا بدعاء معين، وقرأ سورة الواقعة كل ليلة وسورة الصافات كل جمعة، وأخذ من شاربه وأظافره كل جمعة، وصلى صلاة الرزق، رزقه الله حتما، دون شك، وهذا مجرب! - هؤلاء لا يذكرون أدلة من كتاب أو سنة على ما يزعمون، وإنما يلبسون على العامة بقولهم، و(هذا مجرب)، أما ما ورد عند أهل العلم المتبعين لكتاب الله -عز وجل- وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في باب (سنة الله في الرزق)، فإليك مختصرة. كنت وصاحبي في طريقنا إلى المقبرة لأداء صلاة العشاء وحضور جنازة والد أحد المصلين، وعادة أهل الكويت أن يكون الدفن ليلا، بعد المغرب والعشاء في أشهر الصيف شديدة الحرارة (يونيو ويوليو وأغسطس). - أما سنن الله في الرزق فلها أركان، الركن الأول أن الله -تبارك وتعالى- خلق الخلق وتكفل برزقهم جميعا، فهو ربهم -سبحانه- كما قال في سورة العنكبوت: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (العنكبوت:60)، وهذا الرزق مكتوب مقدر قبل خلق البشر، بل قبل خلق السماوات والأرض! ثم تعاد كتابته والإنسان في بطن أمه، كما في حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشفي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح...» (متفق عليه)، هذا هو الركن الأول والركن الثاني، لابد من السعي للحصول على الرزق، لا رزق دون سعي، كما قال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك:15)، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» (صحيح الترمذي)، السعي مع التوكل على الله، والركن الثالث اليقين بأن الرزق الذي كتبه الله لك سيصلك، بل رزقك يسعى إليك ويطلبك أكثر من أجلك. استغرب صاحبي مقولتي! - هل هناك حديث بهذا، أعني أن الرزق يطلب الإنسان مثل أجله؟ - أشد من أجله. عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أ ن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله»، وفي رواية: «إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله» (صحيح الترغيب). - سبحانه الله، أول مرة أسمع هذه الرواية الصحيحة. اقتربنا من مدخل المقبرة، توقفت حركة السير؛ لاكتظاظ المركبات عند المدخل، يبدو أنه كانت أكثر من جنازة، عند المدخل سألنا رجل الأمن عند البوابة، أخبرنا بأن عدد الجنائز أربع. استغفرنا لهم، ودعونا لهم ولموتى المسلمين. بقينا في مركبتنا بانتظار اقتراب موعد الأذان، تابعنا حديثنا: - وفي صحيح الجامع عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله -تعالى- لا ينال ما عنده إلا بطاعته». قاطعني: - وماذا عن الكفار والملحدين الذين هم أغنى أهل الأرض؟ - توقعتك تسأل هذا السؤال، وكذلك كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أخبر عن كنوز كسرى، وثروات الروم، لقد أخبر الله -عز وجل- أن ثروات الدنيا ليست حكرا على المسلمين الصالحين المتقين، بل يعطي الله المؤمن والكافر: {كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (الإسراء:20)، المؤمن يعطى بالحلال وينفقه في حلال فيزداد قربة إلى الله، والكافر يعطى نعيمه في الدنيا، وليس له في الآخرة من خلاق، من اجتهد نال من عطاء الله، ما شاء الله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} (الإسراء:18)، الله -عز وجل-، ينزل الرزق على عباده بعمله وحكمته ولطفه وكرمه، فهو القائل في محكم تنزيله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (الشورى:19)، على العبد أن يسعى، وبعد ذلك يرضى، بقلب يملؤه الإيمان واليقين بالله -عز وجل-، بأن الله لم يظلمه ولم يحرمه ما يستحق، بل أعطاه ورزقه وهو أعلم بحاله: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (الإسراء:30)، فلا اعتراض على بسط الرزق للآخرين وتقديره عليك. هل هذا يتوافق مع قوله -تعالى-: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الفجر:14-16). -نعم، وهذا في ذم لهذا النوع من البشر الذين «يساومون» الله -عز وجل-، فهو -سبحانه- {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء:23). ترجلنا من المركبة، قبل الأذان بخمس دقائق، لنأخذ مكاننا في الصف الأول، دخلنا المسجد فإذا الصفوف الثلاثة الأولى قد امتلأت! همست لصاحبي، دعني أختم الموضوع بهذا الحديث: - على العبد ألا ينظر إلى ما في يد الآخرين فيدخل قلبه الحسد بل يتجه إلى الله -عز وجل- ويسأله الرزق مباشرة، ويعلم أن الرزق ليس بكثرة المال وحسب، بل العافية رزق، والزوجة الصالحة رزق، والولد البار رزق، بل السمع والبصر والعقل رزق عظيم من الله، فالعبد المؤمن يشكر الله دائما على نعمه، التي ربما لا يشعر بها؛ لأنه اعتادها: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} (المؤمنون:78).
لاتوجد تعليقات