رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. أمير الحداد 28 أكتوبر، 2024 0 تعليق

السنن الإلهية (17) لا عذاب.. دون تبليغ

الله -سبحانه وتعالى- له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، لا يظلم أحدا مثقال ذرة، بل يثيب المحسن فوق ما يستحق، ويمهل المقصر، ويحلم عن المسيء، فهو -سبحانه- رحمته سبقت غضبه، وعفوه سبق عقابه، وفي نهاية الأمر، لا يخلد في نار جهنم إلا من أصر على الكفر ومات على الشرك! كنت وصاحبي في رحلة  علاج  أولية، إلى التشيك، لم أزرها من قبل، صاحبي يتردد عليها لآلام في ظهره، وركبته. أدينا صلاة الجمعة، توجهنا بعدها للغداء في مطعم عراقي، لا يبعد عن المسجد. وهؤلاء البشر، الذين لا يعرفون دين الله، أعني أهل هذه البلاد وأمثالها، ما مصيرهم  يوم القيامة؟  هناك سنة إلهية، وقاعدة ربانية، لا تتبدل ولا تتعطل أبدا، وهي قوله -عز وجل-: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء:15). بدأ حوارنا بعد أن  أخذ النادل طلبنا، وكان مهتما أن يستمع لنا؛ فقلت له : - أخشى أن يحاسبك رب العمل! ابتسم: - أنا رب العمل! تابعنا حوارنا: هؤلاء الناس الذين ولدوا في هذه البلاد وغيرها، وعاشوا يهودا أو نصارى أو ملحدين، أو غير ذلك، الله أعلم  بهم، هل قامت عليهم الحجة بتوحيد الله أم لا؟ هل بلغتهم رسالة التوحيد أم  لا؟ والقاعدة التي ذكرناها: (أنه لا عذاب إلا بعد تبليغ). ومن ذلك قوله -تعالى-:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام:130-131).وقوله -عز وجل-:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص:59). وتعلمون أن صيغة الاستثناء بعد النفي، تفيد الحصر، علق (أبو رعد صاحب المطعم). - أنا لا علم شرعي لدي، ولكني -بفضل الله- لا تفوتني صلاة من وقتها لا أصيلها في المسجد، إلا قليلا، ولكن لا تفوتني، والجماعة لا أفوتها على الإطلاق -بفضل الله- ولكن (هذه السنة الإلهية، متوافقة مع عدل الله ورحمته وفضله)، هل لك أن  تفصل فيها. - بيان ذلك  في كتب التفسير، ففي التحرير والتنوير لابن عاشور، «والمعنى أن الله -عز وجل- لا يهلك قوما في حال غفلتهم (أي عدم إنذارهم)، بل لا يهلك أحدا إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- ومن حكمته ورحمته ألا يعذب الأمم بمجرد كفرهم قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل إليهم، والحاصل: أن الله لا يعذب أحدا إلا بظلمه وبعد إقامة الحجة عليه». - كلام جميل، وهل نقول إن هؤلاء الناس لم تبلغهم الرسالة ولم تقم عليهم الحجة؟ أعني من عاشوا هنا، منذ ولادتهم، وسمعوا عن الإسلام مجرد سماع، ولم يتفقهوا، ولم تبلغهم، تفاصيل الدين. - الله أعلم  بمن  أقيمت عليه الحجة ومن لم تقم عليه الحجة، ولا يظلم ربك أحدا مثقال ذرة، وهناك فئة يسمون (أهل الفترة). قال الألوسي: «الفترة عند جميع المفسرين: انقطاع ما بين الرسولين». وأهل الفترة:  كل من لم تبلغهم الدعوة، ولم تقم عليهم الحجة، وقال ابن تيمية: «من لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين وأهل الفترة، فهؤلاء فيهم أقوال، أظهرها: ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة؛ فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب»، ولا شك أن اختبارهم يتناسب والمشاهد العظيمة التي تكون يوم القيامة؛ ففي المسند عن الأسود بن سريع أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد  جاء الإسلام ولم أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في (الفترة) فيقول رب ما أتاني لك رسول؛ فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه؛ فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفسي محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما»، قال شعيب الأرناؤوط حديث حسن، وفي زيادة: «ومن لم يدخلها سحب إليها» صحيح الجامع. أحضر أحد الفتيان العاملين الطعام، وكان زيادة عما طلبنا؛ ذلك أن رب العمل أوصاهم بإكرامنا وقد شاركنا مائدتنا. ويؤكد الله -عز وجل- هذه السنة الإلهية الثابتة  الدائمة النافذة في آيات أخرى كثيرة منها: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء:165)، وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24)، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (النحل:36)، وأشار لها في (القصص) بقوله: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (القصص:47)، ومن ذلك أنه -تعالى- صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل، ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة الكونية والفطرية كقوله -تعالى-: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} (الملك:8-9)، وقوله -تعالى-: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الزمر:71)، ومعلوم أن لفظة  كلما في قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}، صيغة عموم أيضا؛ لأن الموصول يعم  كل ما تشمله صلته.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك